رشيد خشــــانة – يبدو أن الجزائريين باتوا مع تشكيل حكومة مصغرة تُعد للانتخابات، لا يشارك فيها الدبيبة ولا باشاغا، بالرغم من كونهم لا يعترفون سوى بشرعية حكومة الوحدة برئاسة الدبيبة.
بعد فترة غلب عليها التحفظ والاكتفاء بمتابعة الأوضاع في ليبيا عن بعد، يسعى الجزائريون اليوم إلى لعب دور أساسي في بلورة مسار انتخابي يفتح على حل نهائي للأزمة، مُعززا بدعم عربي في القمة المقبلة للجامعة العربية. ولم تكن هذه المشاركة الجزائرية في توليد الحل لتتيسر لو لم تكن مُتسقة مع الخيار الذي انتهى إليه صُناع القرار الحقيقيون في الغرب، والمُتمثلون في أعضاء «مجموعة الاتصال الدولية بشأن ليبيا». ومن المهم الإشارة هنا إلى أن أعضاء «مجموعة الاتصال» اتفقوا على ضرورة استعادة زخم العملية السياسية، عبر دعم المبعوث الأممي الجديد عبد الله باثيلي.
وتتألف المجموعة من ممثلين لكل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ويُعتبر الدور الجزائري في هذا الإطار عنصرا مساعدا على التقدم صوب الحل السياسي. وهذا معناه أن الجزائريين اختاروا النزول إلى الملعب قبل انطلاق المباراة كي يضمنوا دورا فعالا في مُجرياتها. وتجلت العودة الجزائرية إلى الاهتمام بالملف الليبي في الزيارة التي أداها رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي إلى العاصمة الجزائرية الأربعاء والخميس الماضيين، تلبية لدعوة من الرئيس عبد المجيد تبون. ولم ترشح معلومات دقيقة عن فحوى المحادثات بين الرئيسين، إلا أن مصادر جزائرية أفادت أن تبون شجع المنفي على لعب دور أساسي في التقريب بين الحكومتين المتنازعتين على الشرعية، وهما حكومة عبد الحميد الدبيبة وحكومة فتحي باشاغا. كما أتت الزيارة بعد مكالمة هاتفية مهمة بين الرئيس الجزائري ونظيره الألماني فرانك شتاينماير.
والأرجح أن الأخير استطلع موقف الجزائر من فكرة عقد مؤتمر «برلين3» تمهيدا لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في ليبيا. والأرجح أيضا أن الجزائريين باتوا مع تشكيل حكومة مصغرة تُعد للانتخابات، ولا يشارك فيها عبد الحميد الدبيبة ولا فتحي باشاغا، بالرغم من كونهم لا يعترفون سوى بشرعية حكومة الوحدة برئاسة الدبيبة. ويتقاطع هذا الموقف مع موقف واشنطن، التي دعا سفيرها لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، إلى تشكيل حكومة لا يُمثل فيها الغريمان، ما شكل تغييرا مهما في الموقف الأمريكي من الدبيبة.
والظاهر أن المحور الرئيسي في محادثات باشاغا في تونس مع الموفد الأممي الجديد الدكتور عبد الله باثيلي، دار حول التشكيلة الحكومية البديلة (المصغرة) وشروط الرجلين للموافقة على الانسحاب من الحكومتين اللتين يرأسانهما حاليا. وأفادت مصادر جزائرية أن الجانبين تناولا تطورات الوضع السياسي في ليبيا، وضرورة تحقيق المصالحة الوطنية تمهيدًا لإجراء الانتخابات العامة. ويُفترض أن باثيلي قادر على الخوض في المسائل المطروحة، بما فيها أمور التشكيل الحكومي، بحكم كونه مُتابعا للشأن الليبي، في إطار مهمة تقويم عمل البعثة الأممية، التي أوكلتها له الأمم المتحدة، منذ سنة ونصف السنة.
ولم يجتمع باثيلي حتى اليوم مع الدبيبة، غير أن الأخير دافع عن أداء حكومته، ورد على من انتقدوا الاتفاقية التي وقعها مع الأتراك، من أجل التنقيب المشترك عن مصادر النفط والغاز في السواحل الليبية. وبرر ذلك بأن زيادة الطلب العالمي على النفط والغاز بعد الحرب على أوكرانيا، تُعتبر فرصة ذهبية يجب استغلالها، مشيرا إلى أن ليبيا منبع للنفط والغاز، وعليه «يجب التعاقد مع الشركات وإبرام العقود والمشاريع لاكتشاف النفط والغاز داخل الأراضي الليبية وإنتاجه وبيعه». وحسب الدبيبة هناك الكثير ممن يريدون التعاون، «لكننا نبحث عن مصالحنا، ومن يقف معنا في الضيق من دول ورجال سنقف معه ونساعده في السراء والضراء» في إشارة إلى الاتفاقية التركية الليبية الأخيرة. وشرح الدبيبة أن حكومته خاضت مفاوضات مع تركيا، لما يقرب من عام، بشأن مذكرة التفاهم الجديدة لتجنب الأخطاء، على ما قال في فيديو بثته منصة «حكومتنا» على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك».
وما يسترعي الانتباه في الاتصالات الجارية والمناقشات المتعلقة بالحل السياسي أن هناك ما يُشبه الاتفاق الضمني على ضرورة المصالحة الوطنية، وهو ما عبر عنه أخيرا نائب رئيس المجلس الرئاسي موسى الكوني، في معرض حديثه عن جهود الجزائر الرامية لتسوية الأزمة الليبية، إذ أكد أن هناك لأول مرة «شبه توافق» بين الأطراف الليبية حول مشروع المصالحة الوطنية. ويبدو أن الموقف الدولي انتهى إلى الخلاصة ذاتها، إذ يتكرر الكلام على لسان خبراء وباحثين غربيين عن مشروع المصالحة الوطنية، وإن ظل الشعار بحاجة إلى تعريف وتدقيق. من ذلك ما قاله الخبير الإيطالي دانييلي روفينيتي من أن الانقسام في ليبيا لا يمكن تجاوزه إلا بحل بديل، وهو «حكومة ثالثة» تحظى بثقة الداخل، ويكون هدفها تحقيق الاستقرار وإنجاز الانتخابات والمصالحة. وحض روفينيتي الحكومة الإيطالية الجديدة على «العودة في أقرب وقت ممكن إلى الملف الليبي، الذي أخذ منحى أكثر تعقيدا بعد مواصلة تركيا لعبتها» في إشارة إلى مذكرة التفاهم الليبية التركية. إلا أن روفينيتي أكد في الوقت نفسه، أن «التقارب التركي – المصري قد يضفي شرعية على الحل الجديد، لأن عديد الفاعلين الليبيين يعتبرون هذين البلدين مرجعية».
صندوق الاقتراع
أما الرئيس تبون فأكد في المؤتمر الصحافي المشترك مع المنفي أن الحل الليبي للأزمة هو الوحيد الكفيل بتحقيق الاستقرار والرخاء والازدهار في ليبيا، ويتمثل في الرجوع إلى الشعب الليبي، لكي يختار من أراد ويعطي الشرعية لمن يمثله عبر العالم، من خلال صندوق الاقتراع. وأشاعت زيارة المنفي إلى الجزائر شعورا بالأمل لدى الليبيين، لأن الجزائريين سيستضيفون القمة العربية المقبلة يومي 1 و2 الشهر المقبل. ويتطلع الليبيون في هذا الإطار إلى دور جزائري حازم لوقف التداخلات الخارجية في الملف الليبي، ودفع الدول العربية إلى الالتزام بموقف الحياد، والامتناع عن تأجيج الصراع وتغذيته بالسلاح وحتى بالمقاتلين.
في السياق لوحظ أن الرئاسة المشتركة لمجموعة العمل، المعنية بالقانون الإنساني الدولي، والمنبثقة من عملية برلين، عقدت أخيرا اجتماعا بحضور خبراء دوليين، محورها المصالحة الوطنية القائمة على الحقوق، بمشاركة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. وأكد عضو المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، خلال مشاركته في الاجتماع، أن المصالحة الوطنية «هي طريق نجاح أي حل سياسي لتحقيق الاستقرار والسلام المستدام في ليبيا» مشيرا إلى أن المجلس الرئاسي عازمٌ على المُضي في هذا المسار، الذي يعمل عليه منذ أشهر، على ما قال.
بالمقابل هناك فريق ليبي يائس من فرص نجاح الوساطات، إن كانت عربية أم غربية، انطلاقا من أن الفرج لو كان آتيا فعلا لبرزت أماراته ورسائله منذ الآن. ويعتقد هذا الفريق أن وجود قوة داخلية أو خارجية متفوقة (فاغنر أو خبراء الطائرات المسيرة الأتراك أو سواهم) هو الكفيل وحده بإنهاء الحرب ووقف النزيف. وفي السياق اعترف رئيس الحكومة المُنبثقة من البرلمان فتحي باشاغا، في حوار مع قناة «الوسط» الليبية، بأن هناك قوة خارجية «هي التي كانت سدا منيعا لعدم الدخول (دخول قواته) إلى طرابلس». وبالرغم من أن باشاغا رفض تسمية هذه القوة، فالواضح أنها الولايات المتحدة. وبتعبير آخر فمن يمتلك القوة هو من يتفوق ويملك الحسم. غير أن استئناف القتال مستبعد في الظرف الراهن، بسبب فيتو دولي على عودة الحرب إلى ليبيا.
أين الجيش الليبي؟
ولسائل أن يسأل: أليس الجيش الليبي قادرا على أن يكون هو تلك القوة التي تحتكر العنف الشرعي، حسب المصطلح الشهير للمفكر الاجتماعي ماكس فيبر؟ يختلف الجيش الليبي عن الجيوش الأخرى، لأن تاريخ الدولة في ليبيا كان، في أحيان كثيرة، مليئا بظواهر اللادولة وضعف الاندماج في المؤسسات، فلا السلطة استطاعت في عهدها الملكي الادماج الوطني، الذي لا يتزعزع، ولا الناس كانوا يسيرون في منهج الاندماج هذا. أما معمر القذافي الذي فقد ثقته في القوات المسلحة، بعد تعدد المحاولات الانقلابية ضده، فأحدث «رئاسة أركان الوحدات الأمنية» عام 1979وأسند لأبنائه قيادة الكتائب بعد حل الجيش الليبي رسميا.
ومع اندلاع انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011 استقدمت حكومة القذافي كتائب أمنية ضمت متطوعين للقضاء على الثورة في بنغازي، وسرعان ما دخل ما تبقى من الجيش المُنحل في مواجهات مع التشكيلات الموازية، وهي «كتائب الثوار» والميليشيات التي تشكلت بعد سقوط النظام. لا بل تم دعم تلك الميليشيات، التي استأثرت بكامل موازنة المؤسسة العسكرية، بموافقة المؤتمر الوطني العام (برلمان انتقالي) بينما تم تهميش الوحدات النظامية ومعسكراتها. وفي مناخ شبيه بالحرب الأهلية، كثرت اغتيالات العسكريين من جميع الرتب في مدينة بنغازي، وخاصة الضباط، إذ بلغ عدد الاغتيالات قرابة 600 عسكري.
فرض الولاء للدولة
لم تحرك الدولة، مُمثلة في «المؤتمر الوطني» ساكنا إلى أن وصل الأمر إلى الإعلان عن تشكيل «قيادة عسكرية» برئاسة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بعنوان محاربة الإرهاب في بنغازي، بعدما سيطرت على معظم مناطقها ميليشيات أصولية مسلحة. وفتح الجيش في أعقاب دخوله إلى بنغازي في 2014 حربا على تلك الأجسام العسكرية، بالرغم من أن غالبية أسلحته صارت في قبضتها. لهذه الأسباب التاريخية ليست هناك اليوم قوة داخلية يمكنها التغلب على القوات غير الشرعية وفرض الولاء للدولة عليها.
يُضاف إلى ذلك تركيز الأوروبيين حتى الآن على المنطقة الشرقية متناسين الجنوب (اقليم فزان) ومن المهم للغاية، مثلما تقول رافاييلا ديل سارتو الأستاذة في جامعة جونز هوبكنز، البدء في وضع الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط على الأجندة السياسية لأوروبا. لكن من الواضح أن الحرب الأوكرانية باتت تتصدر سلم الأولوية الجيوسياسية للغرب. لهذا السبب تتجه بوصلة الليبيين إلى القمة العربية المقبلة في الجزائر عساها تنجح في تعبيد الطريق للحل السياسي في بلدهم، من خلال اتفاق الدول العربية على موقف موحد يُنهي الصراع المسلح في جوار الجزائر. ومن أهم شروط النجاح في بلورة ذلك الموقف الموحد، وجود توافق مصري جزائري على الحل السياسي. وستكون القمة العربية محكا لمدى واقعية هذا الطرح.