رشيد خشــانة – على الرغم من دخان الحرب المُستعرة في أوكرانيا، لم يتراجع تمدُدُ روسيا في جنوب الصحراء، وخاصة في ليبيا والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى والسودان. وقد يكون هذا التمدُدُ أحد الدوافع الهامة لعودة اللجنة العسكرية المشتركة، المعروفة بـ5+5 إلى الاجتماع أخيرا في مدينة سرت، بعد انقطاع استمر قرابة أربعة أشهر. وأعلن الموفد الأممي إلى ليبيا عبد الله باثيلي، الذي حضر اجتماع سرت، عن انطلاق العمل المشترك بين المراقبين الدوليين والمحليين لمراقبة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، الذي يعود إلى 2020. لكن مصير الصراع لن تُقرره اللجنة العسكرية، لأن أعضاءها يأتمرون بأوامر القيادة السياسية التي عينتهم، والقيادة منقسمة على نفسها منذ انتخابات 2014.
استكمال المسار الدستوري
تزامن اجتماع اللجنة العسكرية مع عودة كل من خليفة حفتر ومحمد المنفي وعقيلة صالح إلى الاجتماع في القاهرة، بحضور مصري مباشر. وفي معلومات مصادر عليمة، كان موضوع إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية، وخاصة استكمال المسار الدستوري، العالق منذ 2017 المحور الأساسي لاجتماع القاهرة. وبناء على النتائج التي أسفر عنها، سيعرض كل من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة على أعضائهما نص الوثيقة الدستورية التي اتفق عليها صالح والمشري، والتي تخص شروط إجراء الانتخابات المؤجلة منذ خريف 2021. لكن لا شيء يؤكد أن نقطتي الخلاف بين الجانبين قد حُسمتا قبل إحالة المشروع على المجلسين. ويتعلق الأمر باستبعاد كل من مزدوجي الجنسية والعسكريين من الترشح للانتخابات، وهو البند الذي كان اللواء حفتر مُصرا على إلغائه كي يتسنى له الترشح. وربما كان هذا الإصرار هو الذي دفع المستشارة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز إلى تصنيف حفتر في خانة المعرقلين للحل السياسي.
لكن معلومات جديدة أتت من القاهرة، مفادها أن الاجتماع الذي عُقد في العاصمة المصرية، واستمر خمس ساعات، انتهى إلى ما يُشبه المقايضة، التي «يتنازل» بموجبها الضابط المتقاعد (80 عاما) عن الترشُح للانتخابات الرئاسية، في مقابل ترشًح أحد أولاده، وهو صدام حفتر للرئاسة. وهذا يعني توريث الحكم في المنطقة الشرقية لأحد أبنائه، وتحديدا للمكلف بالعلاقات مع روسيا وإسرائيل والإمارات. ولو ثبت أن حفتر ارتضى فعلا بهذا «التنازل» مثلما أكدت ذلك صحفٌ إسبانية وإيطالية، فإن الأمور لا تتغير كثيرا لأن صدام حفتر يحمل أيضا رتبة عسكرية رفيعة، ما يضعه تحت طائلة البند الذي يحظر على العسكريين الترشح للانتخابات. مع ذلك يبدو أن ما يهمُ خليفة حفتر وعقيلة صالح هو تفادي إجراء استفتاء شعبي قد يُحظر بمقتضاه على العسكريين المباشرين وذوي الجنسية المزدوجة، الترشُح للانتخابات.
دعم مصري سعودي
والأرجح أن الحضور المصري لاجتماعات القادة الليبيين الأخيرة في القاهرة غيرُ بعيد عن هذه المقايضة، التي تُقدمُ على أنها حلٌ لعقدة الوثيقة الدستورية. وفي الأصل يُعتبر الحضور المصري مُستغربا، لأن التقاليد في مثل هذه الحالات، لا تقتضي بالضرورة حضور الطرف الثالث الاجتماعات الليبية الليبية، وهو عُرفٌ تقيد به المغاربة والتونسيون والجزائريون، على مدى السنوات الماضية، لدى رعايتهم اجتماعات من هذا النوع. وفي السياق لوحظ أن مصر والسعودية كانتا أول من بارك اتفاق رئيسي مجلس النواب والدولة على اعتماد الصيغة المُعدلة لـ«الوثيقة الدستورية» التي تلتف على إجراء استفتاء شعبي على مشروع الدستور. وهذا ما قاله صالح في مقابلة مع قناة «القاهرة الإخبارية» بثتها مساء الإثنين الماضي، مؤكدا أن أي قانون يصدر عن السلطة التشريعية يتعلق بنظام الحكم، فهو قاعدة دستورية يمكن البناء عليها.
حيلة قانونية تقفز على الاستفتاء
هكذا لجأ صالح وحفتر إلى حيلة قانونية لا تستلزم الاستفتاء على دستور جديد، بل تكتفي بقاعدة دستورية يُعدل مجلس النواب بموجبها الإعلان الدستوري، الذي وضعه المجلس الوطني الانتقالي في 2011. والجدير بالملاحظة أن هذه العملية تمت بعيدا عن الشفافية في غرف مغلقة، من خلال اجتماعات صالح مع المشري ثم مع حفتر، ما أثار انتقادات واحتجاجات من بينها موقف «مجلس الداعمين للانتخابات والمصالحة الوطنية» وهو منظمة أهلية، الذي دعا (أي المجلس) لإخراج الوثيقة الدستورية إلى النور، مُطالبا أعضاء المجلس الرئاسي بالقيام بدورهم والذهاب إلى الانتخابات. ونفذ أعضاء المجلس وقفة أمام مقر المجلس الرئاسي، مُعلنين أنهم قدموا نسخة من الوثيقة الدستورية إلى جهات عديدة، بعدما أخفق مجلسا النواب والدولة منذ أشهر في التعاطي الجدي معها.
أما الموضوع الثاني الذي تمحور حوله اجتماع القاهرة فهو توحيد المؤسسة العسكرية وضرورة إخراج المرتزقة من البلد، لكن الطرفين ظلا يتقاذفان المسؤولية عن استدعاء المقاتلين الأجانب، فاللواء حفتر لجأ إلى مساعدة قوات فاغنر الروسية، بالإضافة لمرتزقة تشاديين وسودانيين، حتى أوشك على الاستيلاء على طرابلس في 2019 فيما استنجدت الحكومة المعترف بها دوليا بالخبراء الأتراك ومعهم المقاتلون السوريون. من هنا فإن توحيد المؤسسة العسكرية، الذي ناقشته مجموعة 5+5 ما زال شعارا جميلا، لكنه غير قابل للتحقيق في الوضع الراهن، لأن كل فريق ما زال مُحتفظا بـ«مرتزقته». من هنا يبدو أن حفتر يقصد بتأكيده على ضمان مصير «الجيش الوطني الليبي» عدم إدماج أعضاء الميليشيات في الجيش النظامي، الذي يقوده أبناؤه، في إعادة لسيناريو معمر القذافي، عندما حل الجيش وحوله إلى كتائب يقودها أبناؤه.
مخاوف أمريكية
وبالرغم من اشتداد سعير الحرب في أوكرانيا، تؤكد مصادر مطلعة أن موسكو ماضية في خططها للتمدد وتوسيع النفوذ في منطقة الساحل والصحراء. ولا تُخفي واشنطن مخاوفها من اتساع رقعة التدخل الروسي هناك، وهو أحد المواضيع المهمة التي قد يكون رئيس جهاز المخابرات المركزية الأمريكية وليم بيرنز ناقشه مع القادة الليبيين، خلال زيارته الأخيرة لطرابلس. والأرجح أن الموضوع الأساسي الذي جاء بيرنز من أجله إلى ليبيا، هو تقديم طلب رسمي لتسليم عبد الله السنوسي رئيس المخابرات الليبية في عهد القذافي، وهو في الوقت نفسه صهره، للاشتباه في ضلوعه في الاعتداء على طائرة «بان أمريكان» التي أسقطت فوق قرية لوكربي البريطانية.
كما لا يُستبعد أن يكون بيرنز تطرق في لقاءاته إلى خطر الجماعات الإرهابية، في أقصى الجنوب الليبي، بعد مرور خمس سنوات على إخراج قوات «داعش» من مدينة سرت (شمال وسط) بالقوة. وكانت تلك القوات تُعدُ بالآلاف، لكنها لا تتجاوز حاليا بضعة مئات، حسب تقديرات الباحث المتخصص في الشأن الليبي جلال حرشاوي. والمُلاحظ أن زيارة بيرنز تزامنت مع زيارة رئيس المخابرات التركية، الذي جاء إلى طرابلس ليتأكد من أن الحديث عن إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا، لا يشمل الخبراء والضباط الأتراك، الذين ساعدوا الحكومة الشرعية على صد هجوم قوات حفتر على العاصمة في 2016.
تنسيق جوي؟
ولاحظ مراقبون أن الأمريكيين كثفوا حركتهم باتجاه المسؤولين الليبيين في الأيام الأخيرة، ففي غياب السفير ريتشارد نورلاند، زار القائم بالأعمال الأمريكي ليزلي أوردمان اللواء خليفة حفتر في مقره ببنغازي، وكان الدبلوماسي الأمريكي مرفوقا بنائب قائد القوات الجوية الأمريكية في أفريقيا، الجنرال جون دي لامونتاني، ما يعني أن الاجتماع تطرق لمسائل عسكرية وأمنية، لم يكشف عنها البيان الصادر عن مكتب حفتر. كما اجتمع أوردمان مع رئيس مجلس النواب، ولم يُعرف مضمون الاجتماع، عدا ما أوردته تغريدة للسفارة الأمريكية نشرتها عبر حسابها على»تويتر» أفادت فيها بأن الاجتماع خصص للتباحث حول «التنسيق الجوي بما في ذلك الطيران، وأهمية إعادة توحيد الجيش الليبي تحت قيادة مدنية منتخبة ديمقراطيا».
وفيما لمح المركز الليبي للدراسات ورسم السياسات تغييرا في الموقف الأمريكي من الأزمة الليبية، متوقعا أنها ستستعجل الضغط على الفرقاء الليبيين، كي يتوصلوا في القريب العاجل، إلى اتفاق نهائي، تُقلل جهات أخرى من عمق التغيير في الموقف الأمريكي، بحكم انشغال واشنطن بالحريق الأوكراني. لكنها تعتمد على حلفائها وخاصة إيطاليا، لإعداد خطة تمكن من ضبط حدود ليبيا الجنوبية والقضاء على بؤر الإرهاب هناك. ويندرج هذا الهدف ضمن استراتيجيا أمريكا لمكافحة الإرهاب عبر العالم. ويقول تقرير المركز الليبي إن الدول التي تعاكس هذا الاتجاه ستُجابه الإرادة الأمريكية العليا بشكل صريح، وهو ما يُفسر تراجع اهتمام بعض الدول، مثل الإمارات، بالملف الليبي. أما الدول التي تُعاني من ارتدادات الصراع الليبي وتأثيراته في أمنها القومي، فهي تتابع الأوضاع باهتمام شديد، وتسعى لإيجاد تسوية سياسية للصراع. وفي مقدم تلك الدول إيطاليا التي لا تُخفي انشغالها لوصول 105 آلاف مهاجر غير قانوني عبر البحر في السنة الماضية، أي بزيادة قُدرت بـ56 في المئة قياسا على العام 2021. وغالبية هؤلاء أتوا من بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط، ومن بينهم 53 ألفا قدموا من سواحل ليبيا، وقد تمكنت قوات حراسة السواحل وسفن المنظمات غير الحكومية من إنقاذ 11 ألف مهاجر غير قانوني. من هذا المنطلق تحركت الحكومة الإيطالية الجديدة لمحاولة سد بوابة الهجرة غير القانونية، فقد زار وفد حكومي إيطالي بقيادة وزيري الخارجية والداخلية كلا من تونس والجزائر. وكان وزير الخارجية طار إلى تركيا، قبل مجيئه إلى المنطقة، حيث كان الملف الليبي في قلب زياراته إلى تونس وليبيا وتركيا.
بوابة الهجرة غير القانونية
ولا تُخفي روما سعيها للعب دور ريادي في احتواء ظاهرة الهجرة غير القانونية العابرة للمتوسط. وأفاد وزير الخارجية الإيطالي أن هناك خطين للتدفقات البشرية انطلاقا من السواحل الليبية، الأول من منطقة طرابلس والثاني من منطقة برقة (شرق). ويُعزى الاقبال المتزايد على الهجرة إلى صعوبة الأوضاع الاجتماعية في بلدان المنشإ وسعي المهاجرين إلى تحسين أحوال أسرهم.
وفي الحالة الليبية تبدو الأوضاع الاجتماعية سائرة نحو قدر من التحسن، بفضل ارتفاع الإنتاج من النفط والغاز، وهو ما أتاح اتخاذ إجراءات اجتماعية لفائدة الفئات الشبابية، سواء لتيسير الحصول على مسكن أو للزواج. وتُساعد على انتهاج هذه السياسة الزيادة المتوقعة في إنتاج النفط من 1 مليون برميل يوميا إلى 2 مليوني برميل في غضون ثلاث سنوات، حسب تقديرات وزير النفط والغاز محمد عون. وتُعتبر هذه السياسة، التي لجأت إليها أيضا الحكومة الجزائرية، ضمن خطتها لاحتواء الحراك الاجتماعي والسياسي، ضربا من الرشوة السياسية، لتقسيم الخصوم واستمالة بعضهم إليها. لكن خبراء اقتصاديين يُقللون من فعالية هذه «الرشوة» ويتوقعون أن تتأثر إيرادات الدولة سلبا، جراء ممارسات الفساد والكلفة المرتفعة لمشاريع إعادة الإعمار، فضلا عن تقادم البنية الأساسية لقطاع الطاقة، ولذا سيكون هامش المناورة ضيقا في الأشهر المقبلة، وقد يشهد البلد حراكا اجتماعا، بعد يأس الشارع من إقدام السلطات الانتقالية على اتخاذ قرارات تُنهي المُختنق الحالي.