رشيد خشـــــانة – زيارة السفراء والمبعوثين الخاصين إلى الدبيبة، في مقر مجلس الوزراء، وتأكيد دعمهم القوي لخطة باثيلي، رسالة واضحة إلى الدبيبة، الذي انتقد تلك الخطة، مفادها أنه لا بديل عنها حاليا.
أخفق وفدان من مفوضية المجتمع المدني بليبيا، في الوصول إلى اتفاق لإعادة تشكيل المفوضية وتوحيد جناحيها الغربي في طرابلس، والشرقي في بنغازي. واختتم مسؤولون من الجانبين اجتماعات استمرت يومين في تونس، بإشراف الأمم المتحدة، من دون الوصول إلى نتيجة تُعيد اللحمة إلى المفوضية. وهذا مثال عن الصعوبات التي تعترض تنفيذ خريطة الطريق، التي أعدها الموفد الأممي إلى ليبيا عبد الله باثيلي، للوصول إلى الانتخابات، والتي قدمها إلى مجلس الأمن في نيويورك يوم 27 شباط/فبراير الماضي. وعلى الرغم من أن الأطراف الدولية، وفي مقدمها أمريكا، حضت على سن قانون جديد خاص بالمجتمع المدني، أمر الدبيبة الأعضاء الحاليين بالاستمرار في مناصبهم، من دون إيضاح سقف لذاك الدور المؤقت. وكانت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، شددت خلال اجتماعاتها في طرابلس وبنغازي، على ضرورة الاعتماد السريع لقانون مجتمع مدني حديث، يُستوحى من أفضل الممارسات الدولية، ليحل محل القانون 19.
والواضحُ أن الدول الكبرى المؤثرة في الملف الليبي، مُتفقة على دعم خطة باثيلي، وذلك ما أكده البيان المشترك لسفراء ومبعوثي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، والذي نُشر عبر الحسابات الرسمية للسفارات الخمس على «تويتر». وقد طلب السفراء من الزعماء الليبيين «تقديم التنازلات اللازمة لإجراء الانتخابات، حتى يتسنّى للشعب الليبي تحقيق تطلعاته في اختيار قادته». ومن شأن موقف صريح كهذا أن يشكل ضغطا معنويا على كل من الدبيبة وحفتر وعقيلة صالح، الذين يعملون على إرجاء الانتخابات إلى تاريخ غير مُسمى، من أجل البقاء في مناصبهم.
وتعتبر زيارة السفراء والمبعوثين الخاصين إلى رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، في مقر مجلس الوزراء، وتأكيد «دعمهم القوي» لخطة باثيلي، رسالة واضحة إلى الدبيبة، الذي انتقد تلك الخطة، مفادها أنه لا بديل عنها حاليا.
ونُقل عن ممثلي الدول الخمس أنهم شددوا في كافة لقاءاتهم مع القادة الليبيين، على ضرورة تقديم التنازلات اللازمة للتحرك بسرعة نحو وضع مسار الانتخابات على السكة، «كي يتسنى للشعب الليبي تحقيق تطلعاته في اختيار قادته» على ما ورد في بيانهم. من هذه الزاوية سيكون من العسير على الزعماء الليبيين الدخول في عملية لي ذراع مع المبعوث الأممي، بينما هو يتمتع بثقة كاملة ودعم قوي لخطته من مجلس الأمن. لذلك كانت الرسالة التي نقلها أخيرا السفير الموفد الأمريكي الخاص إلى ليبيا نورلاند، عندما زار الدبيبة، مفادها أيضا أنه ينبغي تكريس الجهود المحلية والدولية، لإجراء الانتخابات خلال العام الجاري. ويدرك نورلاند أن الثلاثي حفتر وعقيلة والمشري يعارضون إجراء الانتخابات، ويسعون بوسائل مختلفة لإحباط الجهود الرامية لإجرائها. ولم يختلف الأمر في اللقاء الذي جمع الدبيبة مع سفراء القوى الكبرى الخمس المؤثرة في الملف الليبي.
وفي خط مُواز تنقل وفد أمريكي إلى بنغازي للاجتماع مع زعيمي المنطقة الشرقية حفتر وصالح. وترأست الوفد مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف، والمبعوث الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند. وهذا يدل على مزيد من الضغوط على الفرقاء الليبيين للالتزام بمقتضيات الإعداد الجاد للانتخابات. وهذا ما يُستشف من بيان الناطق باسم مجلس النواب، الذي قال إن محور اللقاء دار أساسا، حول «التأكيد على ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية». وسيكون أهم اختبار لمدى صدقية الالتزام بهذا المسار انتخابُ أعضاء اللجنة المشتركة لإعداد قوانين الانتخابات، فمثل هذه الخطوة ستساهم في التسريع أو التعطيل بحسب مواقف الفرقاء.
وطبقا لتقديرات باثيلي، سيكون بالإمكان وضع خريطة واضحة للانتخابات الليبية بحلول منتصف حزيران/يونيو المقبل، وإن كان الخلاف ما زال قائما في شأن شروط الترشح للانتخابات الرئاسية، علما أن رئيسي مجلسي النواب والدولة، سبق أن أعلنا عن الوصول إلى اتفاق بشأن الإعلان الدستوري، ولم يكن هناك اتفاق في الواقع، وإنما تندرج هذه الحيل في إطار محاولة كسب الوقت والتشبث بالكراسي.
وهذا ما جعل أستاذ العلوم السياسية بجامعة نيوانغلند الأمريكية الدكتور علي عبد اللطيف احميدة يعتقد أن «النخب الليبية الحالية هي أسوأ ما أنجبت ليبيا من انتهازية» على ما قال في حوار مع صحيفة «ليبيا المستقبل» واصفا هذه النخب بـ«الأنانية وانعدام الضمير». وحذر الدكتور احميده من أن تصبح ليبيا منسية إذا ما استمر الوضع الراهن عقدا آخر من الزمن، ولم تختف «القيادات الفاسدة» وهو المآل الذي وصلت إليه الصومال.
ويُعتبر الكلام الذي قاله المبعوث الأممي باثيلي غير بعيد عن هذا الموقف، إذ حمل على مجلسي النواب والدولة، لأنهما كانا يستطيعان الانتهاء من إعداد القوانين، والتصديق عليها، قبل إحالتها على مفوضية الانتخابات، حسب قوله. ولم يتردد في توجيه نقد أشد إلى المجلسين، وخاصة مجلس النواب، مُذكرا بأن ولايته منتهية، وأن على أعضائه «تقديم أنفسهم للشعب مجددا لطلب تجديد الثقة بهم». ونقل رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري عن باثيلي أن الأخير لا يمانع من منح فرصة للعسكريين للترشُح للانتخابات الرئاسية، وهذا معناه أن اللواء خليفة حفتر وأولاده، لن يُغيروا موقفهم، ولن يُفسحوا المجال لبروز زعامة جديدة، تقوم بإعادة بناء مؤسسات الدولة هناك.
وترمي مبادرة باثيلي، التي أبلغها مباشرة إلى مخاطبيه الليبيين، إلى التمكين من إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية خلال العام الجاري. وفي هذا الإطار يعتزم تشكيل لجنة توجيه رفيعة المستوى. وستعمل هذه الآلية المقترحة، على الجمع بين مختلف الأطراف الليبية المعنية بمن فيهم ممثلو الكيانات السياسية، وأبرز الشخصيات السياسية وزعماء القبائل، ومنظمات المجتمع المدني، والأطراف الأمنية الفاعلة، وممثلين عن النساء والشباب، بحسب ما أفاد المبعوث الأممي نفسه. وبالإضافة إلى تيسير اعتماد إطار قانوني وجدول زمني ملزم لإجراء الانتخابات في 2023 فإن اللجنة المقترحة سوف تكون منصة للدفع قدما، بالتوافق حول الأمور ذات الصلة، مثل تأمين الانتخابات، واعتماد ميثاق شرف لجميع المرشحين. غير أن كثيرا من الخبراء الإقليميين غير مرتاحين إلى اعتبار الانتخابات وحدها قارب النجاة، لإنهاء الصراع في ليبيا. ولم يُعرف فحوى الحوار الذي دار في هذا الشأن بين وفد رفيع المستوى من المسؤولين والبرلمانيين الليبيين، زار واشنطن الأسبوع الماضي، لحشد الدعم لعملية الانتخابات، ومسؤولين أمريكيين من جهة ثانية. وشككت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية في جدوى الانتخابات، مؤكدة أنها «أمر مُضللٌ، لأنها لن تُصلح عدم الاستقرار السياسي والفساد». لكن، رسميا، تبنى أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر مبادرة باثيلي، القائمة على إجراء الانتخابات، ولا شيء سوى الانتخابات.
محاذير… محاذير
لا يمكن التغافل عن بعض المحاذير لدى الحديث عن تنفيذ مبادرة باثيلي، فالاتجاه صوب تشكيل لجنة توجيه رفيعة المستوى تتألف من مُكونات مختلفة، قد يؤجج الصراعات ويُعرقل تنفيذ المبادرة، مثلما حدث للمؤتمر الجامع، الذي سعى المبعوث الأممي السابق غسان سلامة، إلى عقده في مدينة غدامس 2019 وأحبطه زحف قوات اللواء حفتر على العاصمة طرابلس في الرابع من نيسان/ابريل.
لذا من الواضح أن باثيلي ذهب بعيدا في تفاؤله بقرب إيجاد حل سياسي للأزمة، بناء على الخطة التي عرضها على مجلس الأمن. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة هو المتعلق بالنجاعة، فهل أن إحداث لجنة، في ضوء التجارب المُرة مع اللجان، التي تموت قبل أن تُبصر النور، سيكون هو الأسلوب السحري لفرض الحل السياسي؟ فهذه اللجنة، التي تشبه سفينة نوح، ستحمل في أحشائها التناقضات والصراعات، المعلوم منها والخفي، بين زعامات سياسية ووجهاء قبائل ونخب حداثية وتيارات أصولية، والتي ستتفجر لدى طرح القضايا الحساسة، مثل توزيع الثروات الطبيعية، والاختيار بين النظام الفدرالي والوحدوي.
والأرجح أن بعض مواقف باثيلي تركت مفعولا سلبيا لدى بعض الزعامات الليبية، وخاصة عندما نفى عن مجلسي النواب والدولة حق التصرف في المسار الانتخابي، إذ قال «لا يجب ترك الانتخابات بين أيدي مجلسي النواب والدولة فقط» مُنتقدا تباطؤهما في إعداد القاعدة الدستورية. أكثر من ذلك، ذكر باثيلي بأن الفترة التي انتُخب على أساسها أعضاء المجلسين انتهت، وأن عليهم تقديم أنفسهم للشعب من جديد، مُعتبرا هذه المسألة أخلاقية وسياسية في الآن نفسه. والظاهر أن باثيلي سيجد دعما أمريكيا في طريق تنفيذ خطته، وهو ما تؤكده تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، التي مفادها أن واشنطن تعمل بنشاط لاستئناف حضورها الدبلوماسي في ليبيا، من دون تحديد ميقات لمعاودة فتح السفارة الأمريكية في طرابلس.