رشيد خشــانة – تباعدت المواقف المغاربية من عودة سوريا إلى الجامعة العربية، بين مُتحمس بل مشارك في طبخ العودة (الجزائر) ورافض أو متحفظ (المغرب) علما أن هذه المواقف لم تبق جامدة، بل تطورت تفاعلا مع المبادرات الآتية من السعودية ومصر والإمارات لتسريع العودة. وكان الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، مناسبة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لكسر الجليد في العلاقات الثنائية، الذي استمر أكثر من عشر سنوات، لإجراء أول اتصال هاتفي مع نظيره بشار الأسد، والتعبير عن تعازيه في ضحايا الزلزال. وكانت الجزائر من الداعين لعودة سوريا إلى المؤسسات العربية منذ فترة بعيدة، إلا أنها ما كانت قادرة على تزعُم مسار المصالحة، الذي قدرت السعودية على إطلاقه، بمعية مصر والإمارات. في هذا المناخ أتت زيارة بشار الأسد إلى كل من الإمارات وعُمان لتشكل خرقا للقرارات العربية السابقة، ولكي تضع ملف مقاطعة سوريا على الرف. وبعدما كانت رؤية وزير الخارجية السوري فيصل المقداد مجتمعا مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان بن عبد الله حدثا خارقا قبل بضعة أشهر، شاهدنا على الشاشات المقداد في الرياض، وهو يحظى بكثير من الحفاوة من السعوديين، مُعبدا الطريق من هناك للقيام بزيارات مماثلة إلى دول عربية أخرى.
وإذا كانت السعودية أضفت على المصالحة مع الأسد بُعدا إقليميا من خلال «الاتفاق التاريخي» الذي سبقه بين الرياض وطهران، والتي تعد الحليف الرئيسي لبشار الأسد، ما كان ذلك مُتاحا للجزائر، التي لا تُضمر ودا لحكام إيران. مع ذلك لم تتوان عن تنشيط العلاقات مع دمشق في الآونة الأخيرة، لا بل باتت تحُض على المصالحة مع النظام السوري. وبرز هذا المنحى الجديد بشكل جلي في دعوة الدول العربية إلى إعادة نظام الأسد إلى مقعد سوريا في الجامعة العربية، بعد اللغط الذي أثارته الدعوات إلى تعليق عضوية سوريا وجلوس المعارضة في مقعدها. كما اعتُبر تشكيل مجلس الأعمال السوري-الجزائري خطوة مهمة على طريق تطبيع العلاقات، بهدف تطوير التعاون الاقتصادي بين البلدين، في كل المجالات التجارية والصناعية والسياحية.
ويجوز القول إن التقارب الجزائري السوري كان متوقعا، لأن المسؤولين الجزائريين يعتقدون أن رياح التمرد المسلح الذي قادته «الجبهة الاسلامية للإنقاذ» في تسعينات القرن الماضي، في الجزائر، والذي يوصف بـ«العشرية السوداء» كان المقدمة لما حدث في سوريا لاحقا، حسب الوزير فيصل المقداد، في تصريحات أدلى بها لإحدى القنوات التلفزيونية الجزائرية. وأكد في هذا الحوار أن مواقف الجزائر كانت واضحة وثابتة من الأحداث التي عرفتها سوريا طيلة العشرية الأخيرة، وأن الدولتين كانتا تُقاتلان نفس الأعداء.
كرس اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، الخاص بسوريا في جدة، بمشاركة مصر والعراق والأردن، فتح باب التطبيع السوري العربي على مصراعيه، إذ كان الهدف من الاجتماع تذليل الخلافات الخليجية حول سوريا قدر الإمكان. وانعقد الاجتماع، الذي لم يحضره أكثر من عشرة أعضاء في الجامعة، قبل شهر من استضافة الرياض القمة العربية المقبلة، التي ستبتُ في مسألة عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، بعد تعليق عضويتها منذ العام 2012.
واللافت في هذا المجال أن تونس التي كانت آنذاك خلف اعتماد قرار تعليق العضوية، بتشجيع من دول خليجية، هي اليوم من أول المبادرين إلى المصالحة مع دمشق، إذ أعادت فتح سفارتها لدى سوريا وعينت سفيرا جديدا في دمشق، واستقبلت وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، في ثاني زيارة مغاربية له بعد الجزائر. ومن الواضح أن الموقف التونسي شكل استدارة بـ180 درجة في هذا الملف، إذ أن الحكومة التي كانت تقودها «حركة النهضة» في 2012 هي التي دعت إلى «مؤتمر أصدقاء سوريا» الذي مهد لفرض عقوبات على النظام السوري، وعزله عربيا ودوليا. وتُعزى استضافة المؤتمر إلى أن الحكومة التونسية «النهضوية» آنذاك، كانت منخرطة في حلف إقليمي ودولي برعاية أمريكا وفرنسا وتركيا، جعل من تنظيمات الإسلام السياسي قادة المرحلة، بعد الإطاحة ببن علي في تونس ومبارك في مصر والقذافي في ليبيا. والملاحظ أن الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي هو أول من اقترح تشكيل «مجموعة أصدقاء سوريا» لدعم الانتفاضة التي استهدفت الإطاحة ببشار الأسد.
وشارك في المؤتمر، الذي عُقد يوم 24 شباط/فبراير 2012 أكثر من سبعين دولة ومنظمة دولية، وحضرته وزيرة الخارجية الأمريكية وقتذاك هيلاري كلينتون، وشخصيات أخرى من بينها وزير الخارجية السابقة مادلين أولبرايت. وخُتم المؤتمر بإعلان يدعو الحكومة السورية إلى إنهاء العنف ووقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية لأكثر المناطق تضررا من الحرب في سوريا، وفرض مزيد من العقوبات على أركان النظام، مثل حظر السفر على المسؤولين وتجميد أرصدتهم، ووقف التعامل التجاري في مجال النفط وتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي. لكن الخطوة التي أزعجت النظام السوري أكثر من سواها، هي الاعتراف بـ«المجلس الوطني السوري» المعارض ممثلا وحيدا للشعب السوري. وفي السياق قطعت تونس علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق وطردت السفير السوري، وحذت حذوها عدة دول عربية، من بينها السعودية والمغرب. وبعد اعتلاء الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي سدة الرئاسة في تونس العام 2014 لم يكن موافقا على التعاطي بتلك الطريقة مع النظام السوري، لكنه لم يستطع تغيير الموقف التونسي، لأنه كان مُكبلا بتحالف يجمعُ بين حزبه «نداء تونس» و«حركة النهضة». وكان قائد السبسي ميالا للدول المعتدلة، التي بدأت تُظهر في السنوات الأخيرة رغبتها بمراجعة المقاطعة العربية لسوريا.
إقبال على القتال في سوريا
ما كان يُغضب السوريين أكثر من المقاطعة الدبلوماسية، هو تدفقُ عناصر تونسية متشددة على سوريا، عن طريق ليبيا وتركيا، لدعم الانتفاضة في الداخل بتنفيذ عمليات إرهابية. وتمركزت تلك العناصر وهي تُعد بالآلاف، في الشمال السوري، وحصلت على أسلحة متطورة من أمريكا ودول عربية، عن طريق تركيا، وأقامت ما قالت إنه «نظام الخلافة». وعُرفت تلك الميليشيات بارتكابها جرائم عدة وثقتها المنظمات الإنسانية العربية والدولية.
والثابت أن التونسيين لعبوا دورا مهما في تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» (داعش) ليس فقط في المجال العسكري، وإنما أيضا في الإدارة المالية والتوجيه العقائدي. لكن حضورهم تقلص في سوريا، بعد مقتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي في تشرين الأول/اكتوبر 2019. وعادت أسر البعض منهم إلى تونس حيث تثير طريقة التعاطي مع أفرادها جدلا مفتوحا في وسائل الإعلام المحلية. من هنا فإن المسألة السورية صارت بمثابة خط الفصل في تونس بين الداعين إلى محاكمة من سفروا الشباب إلى سوريا، ومن بينهم رئيس الجمهورية قيس سعيد، ومن يُبررون ذلك، ويُدافعون عنه.
أما المغرب فبالرغم من «الاتفاق التاريخي» على تطبيع العلاقات بين السعودية وسوريا، فإنه لم يتزحزح عن قراره بقطع علاقاته الدبلوماسية مع دمشق في العام 2012. والأرجح أن ذلك سيتم خلال القمة العربية المقبلة في الرياض بوساطة سعودية، باعتبار أن المصالحة بين الرباط ودمشق هي إحدى تداعيات التغييرات المتسارعة، التي طرأت على النظام الإقليمي العربي، في الآونة الأخيرة. وتوقع الدكتور إدريس لكريني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاضي عياض في مراكش، أن يُعلن المغرب استئناف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا في القمة العربية، انسجاما مع الموقف العام من هذه المسألة. إلا أن لكريني رجح أيضا في حوار أجرته معه الصحيفة الإلكترونية المغربية «هسبريس» أن يربط المغرب إقدامه على استئناف العلاقات، «بالموقف السوري من قضية الوحدة الترابية» أي قضية الصحراء. وبالنظر لحدة الخلافات بين الجزائر والمغرب، رأى بعض المحللين أن الموقف المغربي المُتباطئ في التطبيع مع دمشق، هو امتدادٌ للمناكفات المستمرة مع الجزائر، في جميع الملفات الإقليمية والدولية.
ويختلف موقف موريتانيا عن شقيقاتها المغاربيات، فهي لم تقطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا في 2012 أسوة بباقي البلدان الأعضاء في الجامعة، وظل السفير السوري يعمل من نواكشوط، والعلم السوري مُرفرفا في سماء العاصمة الموريتانية. وأتى هذا الموقف استجابة لضغوط من أحزاب وجمعيات ذات منحى عروبي. أكثر من ذلك تعددت زيارات المسؤولين الموريتانيين إلى دمشق للتعبير عن دعمهم للنظام، بمن فيهم وفد برلماني موريتاني زار سوريا في تشرين الأول/اكتوبر الماضي، وأشاد رئيسه بـ«صمود سوريا».
ومن مفارقات السياسة الموريتانية أنها تحافظ على علاقات متينة مع سوريا الأسد، وتفتح أراضيها الشمالية في الوقت نفسه، لإجراء المناورات السنوية لقوات أربع وثلاثين دولة، بإشراف القيادة الأمريكية لأفريقيا، المعروفة بـ«أفريكوم». من هنا فالمؤكد أن موريتانيا ستؤيد دعوة القمة العربية في الرياض إلى المصالحة مع سوريا، كونها لم تلتزم أصلا الخطوة السابقة، أي القطيعة، قبل اثني عشر عاما.
سوريتان في ليبيا
في ليبيا يتعاطى السياسيون مع سوريتين، إن صحت التثنية، فهناك سوريا الأسد، التي تحظى بدعم الحكومات الليبية المعترف بها دوليا، وفي الجانب الآخر سوريا التي ترسل المرتزقة لدعم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر. ولوحظ أن الأتراك، الذين أنقذوا حكومة فائز السراج من السقوط في العام 2019 اكتفوا بإرسال مدربين وخبراء عسكريين أتراك إلى طرابلس، إلى جانب ميليشيات سورية جندها حفتر للقتال في صفوف قواته. وتُقدر الباحثة الفرنسية ماري فرديي عدد المرتزقة السوريين في غرب ليبيا بـ3500 عنصر. أما في المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها حفتر، فتقدر فرديي أعداد المرتزقة بـ7000 عنصر بينهم روسٌ وسوريون وسودانيون وتشاديون. وتقدر الأمم المتحدة العدد الإجمالي للمرتزقة في ليبيا بـ20000 عنصر، فيما يعتقد الباحث جلال حرشاوي أن العدد لا يتجاوز 10000 مرتزق.
على أساس هذه الخلفية بدا المغرب العربي طرفا فعالا في الصراع الإقليمي على سوريا، سلبا وإيجابا، إلا أنه ساهم في تعميق الأزمة اعتبارا من استضافة تونس مؤتمر «أصدقاء سوريا» وإرسال آلاف المقاتلين التونسيين إلى مناطق الحرب، حيث تقلص دورهم بعد مقتل أبي بكر البغدادي.