أكثر من 100 شابة ألمانية توجهن إلى سوريا والعراق في غفلة من أسرهن. تركن حياة الرفاهية إلى مناطق الخطر والنار ومازال القضاء الألماني يواجه صعوبات جمة للتغلب على هذه الظاهرة
بدأت رحلة الجهاد بالنسبة لفاطمة، من حيث عاش اليهود في الماضي في حي “بسمارك” بالقرب من الحي القديم لمدينة “اوجسبورج” الألمانية، وحيث كانوا يقيمون في منازلهم إلى أن طردهم النازيون الألمان منها بعد استلام أدولف هتلر السلطة في ألمانيا.
بعض هذه البيوت الأثرية مازالت موجودة وصالحة للسكن، فقد تم ترميمها مرارًا خلال العقود الماضية، لكن سكانها الأولين لم يعودوا موجودين، ويقيم فيها على وجه الخصوص طلبة وعائلات ميسورة.
وفي أحد هذه البيوت، كانت فاطمة البالغة اليوم سبعة عشر عامًا من العمر، تقيم فيه مع والديها وأشقائها الثلاثة، وكانت تلفت انتباه الجيران بشعرها الطويل الذي ينساب على ظهرها.
وقال والدها حمدي بصوت حزين يعبر عن ضعف حيلته: لقد رحلت فاطمة عنا، وقبل وقت قصير كانت الشرطة في بيته، حيث قامت باستجواب أعضاء الأسرة عن ظروف اختفاء فاطمة، وفي القريب سوف يمثل أمام المحكمة كشاهد في قضية اختفاء ابنته، وقال إنه أبلغ كل ما يعرفه للشرطة، رغم أنه لا يعرف إلا القليل، لكن حمدي لديه كثير من الأسئلة التي لا يملك هو نفسه إجابات عليها، ولا يفهم لماذا ابنته، الشابة المسلمة، التي وُلدت وترعرت في بلد بارز في العالم الغربي، هي بالذات، اختارت الطريق الشاق في الحياة، وتوجهت إلى بلدي الحروب، سوريا والعراق، لتعيش هناك كواحدة من بنات الجهاد حسب تعبير وسائل الإعلام الألمانية، وترتدي النقاب، وتحمل السلاح، وأدارت ظهرها إلى الحياة التي كانت تعيشها مع أسرتها في ألمانيا، لا ماء ولا تأمين صحي.
حسب معلومات سلطات الأمن الألمانية، سافرت قرابة مائة امرأة حتى الآن، من ألمانيا إلى مناطق القتال في سوريا والعراق، وأن غالبيتهن غادرن ألمانيا في صيف عام 2014. وكثير منهن يرافقن أزواجهن، أما النساء العازبات، فيتوجهن إلى تلك المناطق، بحثًا عن رجل العمر، وبينهن من عزمن المشاركة في القتال.
لكن والد فاطمة، لا يريد سماع شيء عن المناطق الخطرة التي يُحتمل أن تقيم فيها ابنته اليوم. واعترف بأنه يخفي عن جيرانه حقيقة وجودها في سوريا أو العراق، كي يتجنب مواجهة أسئلتهم، ويكتفي بالقول إن فاطمة تقضي إجازة طويلة في الخارج، ويحرص على عدم ذكر اسم سوريا أو العراق.
وقالت السلطات الأمنية الألمانية إنها على يقين بأن فاطمة موجودة اليوم في سوريا، وقد انضمت إلى إحدى الجماعات الإسلامية المتطرفة المسلحة، لذلك فإنها بنظرهم، ليست حالة استثنائية، ومثلها مثل الشابات التي تتراوح أعمارهن بين 16 و27 عامًا، وينحدرن من مختلف المناطق الألمانية.
ورغم أن السلفيين في مدينة “اوجسبورج” فئة قليلة وخلافًا للسلفيين في كولون وبون وبرلين، الذين معظمهم من الشباب الألماني الذين اعتنقوا الإسلام ولديهم استعداد للعنف، فإنهم ينبذون العنف، لكن بينهم من يرفض العيش حسب القوانين الألمانية ويدعو إلى فرض الشريعة، وهكذا استطاع بعضهم التأثير على بعض النساء اللواتي انضممن لهم وكانت فاطمة وشقيقتها بينهن.
وقال حمدي إنه لا يعر أهمية كبيرة عندما لاحظ أن ابنته بدأت تتعبد، واعتبر ارتداءها الحجاب مسألة عادية وقرارها الشخصي، وتساءل عما يمكن لأب أن يفعله إذا تحجبت ابنته، هل أشكيها للشرطة؟.
لكن ذلك كانت البداية بالنسبة لفاطمة، ففي ديسمبر 2013 خرجت فاطمة من بيت الأسرة ولم تعد. وتوجه والدها إلى مخفر الشرطة وقدم بلاغًا حول اختفائها، لكنه لم يستطع تقديم معلومات توضح مكان أو سبب اختفائها. ويعتقد حمدي اليوم أن السلطات الألمانية تتحمل مسؤولية اختفاء ابنته، وقال متسائلاً: ما هو هذا البلد الذي يُسمح فيه لفتاة قاصر السفر دون إذن أولياء أمرها؟.
وقال إنه بعد مرور شهر على اختفاء ابنته، سافر مع شقيقتها أمينة إلى تركيا حيث توجه إلى الحدود مع سوريا بحثًا عن فاطمة في قرية قريبة من مدينة اللاذقية، حيث يوجد هناك ما يُسمى “البيت الألماني” أهم عنوان للجهاديين من ألمانيا والنمسا وسويسرا. وقال حمدي إنه وجد ابنته هناك واستطاع أن يُقنعها بالعودة معه إلى ألمانيا، وقام بإبلاغ الشرطة الألمانية لتحاشي اعتقالها واستجوابها عند عودتها إلى ألمانيا، وفي البداية تخلت فاطمة عن النقاب وعادت تعيش حياتها السابقة.
مثل هذه القصة، العديد منها حيث يعاني أولياء الأمور صعوبة في منع أبنائهم وبناتهم من السفر إلى سوريا والعراق وركوب موجة الجهاد حسب اعتقادهم، مثل والد فتاتين تبلغان 15 و19 عامًا من العمر، كانتا تقيمان في كنفه في منطقة الرور الصناعية، حيث لاحظ أن إحداهما بدأت ترتدي النقاب، وفي أحد الأيام، اصطحبت شقيقتها إلى المطار، وتمكن من إخطار الشرطة التي أوقفت سفرهما في آخر لحظة، وأعيدتا إلى المنزل. وقبل أن تغادر الشرطة المكان، هددت إحداهما بقتل والدها خلال نومه، لتنتقم منه لأنه منعهما من السفر إلى سوريا. ومنذ ذلك الوقت، يساعد خبراء نفسانيون الأب وابنتيه للتخلص من فيروس التطرف، وقال إنه يحرص على إخفاء كل شيء عن الأقارب والأصدقاء، ويعلم أن مهمته صعبة جدًا، وأنه يومًا ما سوف يستيقظ من نومه ولا يجد ابنتيه في البيت.
ويعتقد خبراء الأمن الألمان أن تطرف النساء الشابات يتم خارج البيت وبعيدًا عن رقابة أولياء الأمور. وهذا ما حصل للشابة جيني، البالغة 17 عامًا من العمر، والتي تعرفت على شاب صحبها معه إلى مسجد “الفرقان” في مدينة “بريمن” في الشمال، وبدأت ترتدي النقاب، وبعد وقت قصير توجهت إلى سوريا. وسارة البالغة 15 عامًا من العمر، التي درست لوقت قصير في مدرسة إسلامية في الجزائر قبل أن تنشر صورة لها على مواقع التواصل الاجتماعي وهي تحمل بندقية “كلاشينكوف” وتحتها عبارة تقول: أنا الآن في سوريا وأنتمي لتنظيم “القاعدة”. وكذلك الفتاتان سمرة كيزنوفيتش (16 سنة) وسارة ساليموفيتش(15 سنة) واتهام إمام في فيينا يدعى مرساد، بحثهما على السفر إلى سوريا والعراق.
ويقول بيتر نويمان، خبير الإرهاب في كلية “كينجز كوليدج” بلندن، إن السلفيين لديهم قدرة كبيرة في التأثير على مجموعة من النساء، خاصة الشابات اللواتي يحلمن بالحصول على رجل العمر ويتخيلن أن المجاهدين عبارة عن فرسان يبحثون بدورهم عن أميرات. وأضاف أن النساء يردن قضاء العمر مع هؤلاء الفرسان، وخدمتهم، بالإضافة إلى رغبتهن في التعرف على الحياة الخطرة التي تنتظرهن في سوريا والعراق، واستفزاز أقاربهن. كما يتم اجتذابهن من خلال الدعاية المركزة في الإنترنت حيث تكتب شابة تسمي نفسها “مهاجرة” مدوناتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ونشرت صورة وهي تجلس على حضن زوجها الشاب وقد حملت قنبلة يدوية بيدها. وقالت إنها تشعر بأنها بطلة حقيقية تعيش على أرض الجهاد وقالت إن شعورها لا يوصف. ويقول خبراء الإرهاب إن هذه الأقوال تجد رواجًا عند بعض النساء اللواتي يحلمن بالطريق التي سارت فيها “مهاجرة”. وتوجد في الإنترنت مواقع خاصة للزواج من سلفيين، والملاحظ أن هذه المواقع، لا تعرض شرائط فيديو قطع الرؤوس ولا إحراق المعتقلين ولا دمار القرى والمدن وأشلاء المدنيين، وإنما تنشر صور جبال وورود وأشجار الفاكهة.
وحتى اليوم يواجه القضاء الألماني صعوبات في التغلب على مشكلة سفر الألمانيات إلى سوريا والعراق، أولاً لأن النساء لا يظهرن تطرفهن في العلن مثل الرجال، ثم لا يزرن معسكرات التدريب على حمل السلاح، ولا يظهرن في الشارع وراء لافتات تحمل شعار “القاعدة” وتنظيم “داعش”.
لكن السلطات الألمانية تعرف أن الكثير من الجهاديين والجهاديات الذين توجهوا من ألمانيا إلى سوريا والعراق، يريدون العودة ولكن لا يعرفون كيف يستطيعون ذلك. لكن حمدي يعتقد أنها كانت معجزة لأنه استطاع أن يقنع ابنته فاطمة بالعودة إلى ألمانيا والانفصال عن ماضيها.
غير أن حلمه لم يدم طويلاً، فقد اختفت فاطمة مجددًا، وأصبحت ملاحقة من قبل السلطات الألمانية التي قررت مؤخرًا، معاقبة الجهاديين والجهاديات الألمان، الذين يتوجهون إلى سوريا والعراق وأفغانستان وباكستان، ومحاسبة بعضهم المشتبه بارتكابهم جرائم قتل، ومحاكمتهم كمجرمي حرب.