توفّر ندوة برلين المرتقبة فرصة لجميع الأطراف لتحقيق انفراجة دبلوماسية في حرب ليبيا «الأهلية». هل ستُغتنم الفرصة؟
على امتداد أعوام عدة، ظلّت مقاربة المجتمع الدولي لليبيا تُصاغ من طرف حفنة من الدول، وبالكاد حقّقت إنجازات. لذلك، قد يُحدث دخول ألمانيا على خطّ النزاع تغييراً في قواعد اللعبة: من المنتظر أن تُنظّم الأمم المتحدة ندوة دولية نهاية تشرين الأول/ أكتوبر أو بداية تشرين الثاني/ نوفمبر. قبل اتخاذ أنغيلا ميركل قرار احتضان الندوة، أصدرت المستشارة تحذيراً حول مخاطر انزلاق ليبيا إلى وضع يشبه الفوضى السورية.
لا تعني الندوة في حدّ ذاتها شيئاً كبيراً: في النهاية، انعقدت قمم مشابهة على مدار الأعوام، جمعت حول الطاولة الدول نفسها والوجوه الليبية. تصاعدت الإعلانات ثم نُسيت. إذا أرادت ألمانيا أن ينتج من مبادرتها، واقتحامها النادر ساحة السياسة الخارجية في شمال أفريقيا، استقرار ليبي أكبر، فيجب عليها العمل بجدّ على وضع الأجندة السليمة على الطاولة، وأن يكون لها ما يكفي من الحلفاء لضمان تطبيقها.
في واقع الأمر، يدلّ اختيار مكان الاجتماعات الرفيعة السابقة حول ليبيا، وأسماء الدول التي قادت تلك المبادرات، على المصير الذي لقيته: اجتماعان في باريس، اجتماعان في أبو ظبي، إضافة إلى التكليف الحصريّ الذي حظيت به مصر لتطبيق جزء من مشروع توحيد المؤسسة العسكرية ضمن أحدث خطط عمل الأمم المتحدة في ليبيا. وبالنظر إلى أن فرنسا والإمارات ومصر تمثّل أكبر ثلاثة داعمين لأحد أطراف الحرب في ليبيا، المشير خليفة حفتر، فإن من غير المفاجئ تفضيل نتائج تلك الاجتماعات لذلك الطرف، سواء عبر رفع مكانة حفتر، أو محاولة تطويع مسار الانتقال السياسي لضمان موقعه.
الاجتماع الأول نظّمه إيمانويل ماكرون، في لاسيل سان كلود، ورفع حفتر إلى موقع مكافئ لرئيس حكومة «الوفاق» المدعومة من الأمم المتحدة، فائز السراج. اختزلت هذه الخطوة التعقيد الشديد للوضع السياسي والأمني الداخلي الليبي في شخصيتين، وغيّبت البرلمان المنتخب. أخيراً، في آذار/ مارس، قوّضت «صفقة أبو ظبي»، التي لا يزال محتواها غير مكشوف، مسار «الملتقى الوطني» الذي عملت الأمم المتحدة على تنظيمه، وهي مبادرة انطلقت من قاعدة المجتمع إلى مستويات أعلى، وكانت تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي الليبي وإحياء تحوّله. في حال طُبّقت، كانت مبادرة أبو ظبي ستنتج صفقة غير ناضجة، تعطي حفتر سلطة شبه مطلقة، لكن لم يوافق عليها السراج ولا حتى حفتر.
جاءت النتيجة النهائية لسلسلة القمم والمبادرات على امتداد الأعوام في شكل حرب على نطاق لم تشهده ليبيا منذ الثورة ضدّ معمر القذافي عام 2011. شهدت البلاد هجوماً جريئاً لحفتر على طرابلس في عملية سطو مبطنة على السلطة. أدت هذه العداوات المتجددة إلى مزيد من تدويل الصراع، وقادت خصوم حفتر للتضرع إلى تركيا لرفع دعمها على المستوى العسكري التكنولوجي، وطبّعت حالة الحرب على امتداد البلاد، وسمحت لـ«داعش» بإعادة فرض نفسه، ودمرت البنية التحتية الليبية العرجاء بطبعها. عمّق الصراع المتجدد الانقسامات الموجودة، وخلق انقسامات جديدة، ما يعني أن التحالفين الفضفاضين يمكن أن يتفتّتا ويتحوّلا إلى خليط صراعات يغطّي كامل البلاد.
لم يَقُد كلّ ذلك إلى ثني داعمي حفتر عن مواصلة دعم حليفهم وحمايته. استخدمت فرنسا والإمارات ومصر تأثيرها الدبلوماسي في واشنطن ونيويورك للحفاظ على تعاطف الولايات المتحدة، وإبقاء مجلس الأمن الدولي عاجزاً عن معالجة الملف، على رغم استمرار الانتهاكات الصارخة لحظر التسليح الذي فرضته الأمم المتحدة على ليبيا.
تعلم ألمانيا جيّداً المشكلة التي تواجهها بالنظر إلى تزامن هجوم حفتر مع ترؤسها مجلس الأمن الدولي، وقد جوبهت محاولاتها لإمرار قرارات في جلسات خاصة خلال تلك الفترة بالصدّ أو التعويم. وتشير تصريحات حديثة لميركل وسفير ألمانيا في ليبيا إلى وعي ألمانيا مخاطر السماح باستمرار الوضع الحالي في ليبيا، وأهمية كبح التدخل الدولي.
العزاء الوحيد هو اختيار ألمانيا للوقت الصحيح. يشهد هجوم حفتر العسكري على العاصمة تداعياً منذ خسارته قاعدة عملياته المتقدمة في مدينة غريان نهاية حزيران/ يونيو. منذ ذلك الحين، فشلت هجماته في السيطرة على أراض جديدة لأكثر من ساعات، كما أن التحالف المضاد لحفتر يطبق ببطء على آخر معاقله، مدينة ترهونة. يتصاعد تعويل قوات حفتر على موجة جديدة من الضربات الجوية المصرية والإماراتية، وعلى شحنات الأسلحة الثقيلة، كل ذلك فقط للمحافظة على حضور في الميدان، بصرف النظر عن الأضرار الجانبية. يمكن أن يخلق ذلك فرصة لأن تنتهي الندوة بالوصول إلى اتفاق.
يبدو أن تزعزع الاستقرار الناتج من ضعف حفتر في جنوب البلاد وفي معقله شرقها يسبّب ذعراً لداعميه الدوليين. وينبني هذا الاستنتاج على تزايد دعواتهم للوصول إلى حلّ دبلوماسي. بالتوازي مع ذلك، لطالما عبّرت دول أخرى في شمال أفريقيا عن قلقها حول الاستقرار في ليبيا، ونسجت دول في غرب أفريقيا على منوالها: دعا اجتماع أخير لـ«المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» بوضوح إلى حلّ عاجل. تتآلف هذه العوامل الآن لخلق إرادة واسعة ونادرة للوصول إلى حلّ. بناء على ذلك، يبدو داعمو حفتر منفتحين على إعادة طرح الخطة الثلاثية التي طرحها المبعوث الأممي الخاص، غسان سلامة، في تموز/ يوليو، والتي تدعو إلى عقد هدنة، وبدء مسار بناء الثقة، وندوة دولية للدفع إلى مسار سياسي ينبع من القاعدة.
اضطلعت ألمانيا برفع تحدّي الجزء الثالث من هذه الخطة. للنجاح في ذلك، يجب أن يبقى الاهتمام منصبّاً على الدول الفاعلة، وتجنّب الانحراف نحو السياسة الليبية الداخلية. تحضيراً للندوة، يعمل التحالف الثلاثي الداعم لحفتر على صياغة اقتراحاته للتفاوض على حلّ. وتشمل الاقتراحات الحصول على تنازلات مالية وعسكرية من طرابلس، والدعوة إلى انتخابات سريعة ضمن خطة أحادية الجانب لن تلقى بالتأكيد اهتماماً كبيراً من القوى التي تقاتل تحت مظلّة حكومة «الوفاق»، والتي تشعر بأنها على وشك هزم حفتر.
في حال سُمح للندوة بالتركيز على صياغة اقتراحات مماثلة وحشد دعم دولي لها، فإنها ستفشل في صياغة اتفاق. ستشدّد هذه المقاربة الحصار النفسي الحاضر بالفعل في غرب ليبيا، ما سيقود التحالف المضاد لحفتر إلى الاعتقاد بأن المجتمع الدولي يقف ضدّه، وأنه يجب عليه مضاعفة جهوده لتأمين انتصار عسكري. على مستوى الديناميات الدولية، سيقود ذلك إلى تقوية الارتباط بين غرب ليبيا وتركيا، وتعزيز طبيعة الصراع كحرب إقليمية بالوكالة.
المتابعة مهمة أيضاً: في حال أريد أن تكون ندوة ألمانيا الخطوة الأولى نحو الاستقرار، فإنه يجب حتماً أن يتبعها مسار وساطة. يجب على برلين ان تعمل على ضمان استخدام هذا الحدث لتوفير مساحة للمبعوث الدولي، غسان سلامة، لإحياء مساره القاعدي بوصفه مسار وساطة. بناءً على ذلك، فإن أفضل شيء يمكنها القيام به هو تحضير الأرضية لنقاش أكثر صدقاً، عبر حصر الندوة في خلق مواقف توافقية حول وقف الأنشطة الدولية المغذّية للحرب. يجب أن يكون الهدفان الرئيسان الموافقة على التزام خاضع للرقابة لفرض حظر التسليح، واستنباط آلية مماثلة لفرض قرارات الأمم المتحدة التي تحمي «المؤسسة الوطنية للنفط» بوصفها المتصرف الشرعي الوحيد في النفط الليبي. سيمنع ذلك حفتر من عقد صفقات بيع نفط غير قانونية، أو السعي مرة أخرى لتقسيم مؤسسة النفط والسطو عليها وبيع النفط لمصلحته.
المنطق الكامن وراء هذا الموقف يقوم على أن تحييد الدور المضرّ للفاعلين الخارجيين في الصراع الليبي هو الطريق الوحيد ربما لتحقيق الرغبة الدولية الحالية في الارتكاز على الدبلوماسية. لن تصل المساومات المحتومة بين الفاعلين الدوليين والليبيين إلى حلّ إلا في حال اختفاء إمكانية مواصلة الحرب وتحقيق استقلال مالي. ويجب أن يمثّل ذلك حافزاً لجميع الدول الأجنبية المتورطة حالياً في ليبيا. علاوة على ذلك، وفي حال تطرقت ألمانيا إلى الجانب الليبي للمحادثات، فإنه يمكن أن ينبعث مسار وساطة آخر يشجع الليبيين على التحايل على الأمم المتحدة.
بناءً على ذلك، بإمكان ألمانيا أن تترك أثراً من خلال تيسير مهمّة سلامة عندما يحين دوره، مرة أخرى، للتوسط في حلّ ليبي. ويمكنها القيام بذلك عبر إقناع اللاعبين الدوليين في الحرب الأهلية الليبية بأن هناك صفقة لمصلحتهم، لكنها مشروطة بكبح محفزات الحرب. بدخولها عالم السياسة الليبية، ستتزايد فرص نجاح ألمانيا في حال دعم الدول الأوروبية لها التي لا تدعم أيّ طرف في الحرب وتبحث عن استقرار ليبيا. سيساعد جمع تلك الدول حول موقف موحد في خلق كتلة محايدة بين الجانبين تساهم لاحقاً في بناء الوساطة. دخلت ألمانيا مجالاً شديد التنازع بإعلانها احتضان الندوة. لكن، في حال لعبت أوراقها بشكل صحيح، فإنها ستكون الفاعل المحايد، لكن الجازم، الذي غاب طويلاً عن جهود الاستقرار في ليبيا.
(طارق المجريسي ــــ موقع المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية)