رشيد خشــانة – الشروط الفنية للانتخابات باتت شبه مكتملة، غير أن العائق الكبير يبقى سياسيا، ومن هنا يغدو استكمال المسار العسكري ضروريا، لضمان استقرار الأوضاع وقطع طريق العودة إلى الحرب.
بالرغم من التقدم النسبي الذي تحقق في مناقشة ملف الانتخابات، في إطار ملتقى الحوار السياسي الليبي، تظل المخاوف قائمة من انتكاس الوضع الأمني، بسبب عُسر التوصل إلى توافقات في المسائل الخلافية الكبرى.
وهناك من يخشى، في حال استمرت التعطيلات احتمال تفجُر الوضع العسكري، خصوصا في ظل الاستفزازات التي يقوم بها الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، ومن بينها ما سُمي بـ»الاستعراض العسكري» في ذكرى إطلاقه «عملية الكرامة» العام 2014. وزاد من تفاقم هذه الأخطار وجود أعداد كبيرة من القوات في مواجهة بعضها البعض، لا يفصل بينها سوى حوالي 50 كيلومترا، وهو ما أكده الاعتراف الأممي بأن عدد المقاتلين الأجانب وسط البلاد، لم يتراجع، الأمر الذي استدعى من المحكمة الجنائية الدولية التهديد بمقاضاتهم لإجبارهم على الخروج من البلد. وهذا أحد المؤشرات إلى أن الضغوط سوف تكون كبيرة في هذا الموضوع، وأنها ستشهد ذروتها ربما في مداولات مؤتمر برلين الثاني حول ليبيا المقرر للشهر المقبل.
وبحسب الأمم المتحدة ثمة حاليا 20 ألف من المرتزقة والمقاتلين الأجانب في ليبيا، وهم يتوزعون على مجموعات عدة من جنسيات مختلفة، بينهم روس وتشاديون وسودانيون وسوريون وغيرهم.
رئيس منزوع الصلاحيات؟
ويمكن القول إن الخلافات الحالية بين الليبيين تتركز أساسا على التمسك بإجراء استفتاء على الدستور أو اعتماد الإعلان الدستوري (2011) في غياب الاتفاق على الاستفتاء. أما العنوان الكبير الثاني فمحوره: هل يتم انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، واستطرادا سيكون بالضرورة رئيسا بصلاحيات كاملة، أم يكون رئيسا منتخبا من البرلمان، محدود الصلاحيات، واستطرادا مُقيدا بالتوازنات السياسية داخل المجلس النيابي، إذ يمكن أن يُعزل إثر تشكيل غالبية برلمانية تسحب منه الثقة لأنها غير منسجمة معه.
وارتدى هذا الجدل بعدا سياسيا لأن الليبيين منقسمون بين قوى سياسية تريد رئيسا يتحكم به البرلمان، وأخرى تسعى إلى أن يجمع هو السلطات بين يديه، أسوة بمنصب الرئيس في أمريكا وفرنسا، على سبيل المثال. وعرفت تجارب انتقالية عربية مثل هذا الجدل، إلا أن الوقائع في التجربة التونسية مثلا أظهرت الفشل الذريع للنظام البرلماني، على مدى عقد من الزمن، وأكدت بالتالي الحاجة إلى مؤسسة رئاسة قوية.
خلاف على ميقات الاستفتاء
ويقع هذا الخلاف في قلب مناقشة المرجعية الدستورية للانتخابات، التي اختلف الليبيون في شأن إلحاحيتها، إذ هناك من دعا إلى إرجاء الاستفتاء إلى ما بعد الانتخابات، المقررة ليوم 24 كانون الأول/ديسمبر المقبل، واعتماد الإعلان الدستوري، بعد تعديل بعض بنوده. وفي المقابل هناك من تمسك بإجراء استفتاء على دستور جديد، قبل الانتخابات، في ظل غياب الاتفاق على إجراء تعديل للإعلان الدستوري.
وعقدت اللجنة القانونية في الفترة بين 21 كانون الأول/ديسمبر 2020 وآذار/مارس الماضي، 15 اجتماعا افتراضيا، إضافة إلى اجتماعات ثنائية بُغية مناقشة القاعدة الدستورية للانتخابات.
غياب الزعامات
ويعزو محللون رفض تيارات الإسلام السياسي للنظام الرئاسي إلى كونها لا تملك زعامات تحظى بالشعبية التي تجعلها قادرة على الفوز في انتخابات رئاسية حرة وشفافة. واستطرادا، فهي ستكون أقل قدرة على التأثير في ظل نظام رئاسي منها في إطار النظام النيابي، والذي من عيوبه أيضا عدم استقرار الحكومات، مثلما هو الشأن في إيطاليا مثلا.
عدا هاتين المسألتين المتعلقتين بالموقف من النظام الرئاسي والمرجعية الدستورية للانتخابات المقبلة، طفت على سطح المناقشات في جلستين لملتقى الحوار السياسي، أخيرا بإشراف المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا، رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم يان كوبيش، خلافات أخرى من أبرزها حق مزدوجي الجنسية في الترشيح للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وتحديد راتب رئيس الجمهورية، وهي خلافات أحيلت على ملتقى الحوار السياسي لاستكمال مناقشتها.
راتب الرئيس
وفي هذا الإطار تم الاتفاق في اجتماع اللجنة القانونية، المنبثقة من ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي انعقد في تونس في أبريل/نيسان الماضي، على تعديل الإعلان الدستوري، كما تم حل قضايا خلافية أخرى بينها ألا يتجاوز راتب الرئيس عشرين ضعفا من الراتب الأدنى في الدولة. واللجنة القانونية هي المكلفة بوضع القاعدة الدستورية للانتخابات البرلمانية والرئاسية، وقد انتهت إلى وضع عدد من الاقتراحات في هذا المضمار، أدمجتها في مقترح موحد.
وأفادت مقررة اللجنة القانونية سلوى الدغيدي، أن اللجنة عقدت 15 اجتماعا افتراضيا، إضافة إلى الاجتماعات الثنائية بين أعضائها، في إطار مناقشة القاعدة الدستورية للانتخابات، وقررت إدماج سبعة مقترحات في مقترح موحد. وأفادت البعثة الأممية أن أعضاء ملتقى الحوار السياسي تقدموا خلال المناقشات، بتسع رسائل ضمنوها الملاحظات التي سجلوها بخصوص مقترح القاعدة الدستورية. وأوضحت البعثة أن تلك الملاحظات تتعلق بمسائل أداء القسم، ورئاسة مجلس النواب وأعضائه، وإسقاط العضوية به، وإنجاز المسار الدستوري، وصلاحيات رئيس الدولة وشروط الترشح، والحقوق الانتخابية لمنتسبي القوات الأمنية والجيش، والتزامن بين الانتخابات التشريعية والرئاسية، ومسألة استكمال المسار الدستوري.
رفض وإقصاء
وارتدى موضوع شروط الترشيح للرئاسة حساسية خاصة، إذ أصر أعضاء في ملتقى الحوار السياسي على رفض ترشيح مزدوجي الجنسية والمتزوجين من غير الليبيات، سواء للانتخابات الرئاسية أم للمجلس النيابي، فيما اعتبر آخرون أن مثل هذا الرفض هو إقصاء لقسم من الليبيين من ممارسة بعض حقوقهم، كما أنه يُكرس التمييز بين المواطنين، على ما قال أنصار هذا الموقف، ومنهم عضو الملتقى محمد الغدي.
غير أن النقطة التي شكلت قاسما مشتركا بين غالبية أعضاء الملتقى تمثلت في ضرورة النص، في القاعدة الدستورية للانتخابات، على حق الرئيس في حل مجلس النواب، بعد إجراء الانتخابات المقبلة بنحو ستة أشهر، على أن يكون للمجلس أيضا الحق في سحب الثقة من الرئيس حال الحصول على النصاب القانوني لذلك. وهذه المواقف من شأنها أن تترك الباب مواربا لعدم الاستقرار الحكومي.
ظلال الصراعات الدولية
وأبدى كثير من أعضاء ملتقى الحوار حرصهم على استكمال الاعداد الدستوري للانتخابات مع بدء تموز/يوليو المقبل، والالتزام بخارطة الطريق، المُنبثقة من مؤتمر برلين حول ليبيا، مطلع العام الماضي، بينما لا يبدو آخرون متحمسين للوفاء بتلك الوعود. ويمكن أن نرى في ذلك التجاذب بين فريقين من الليبيين ظلالا للمواقف الدولية في شأن الصراع الليبي، إذ انقسمت الأطراف الخارجية إلى مجموعة تضم أمريكا وسائر البلدان الأوروبية، وخاصة ألمانيا وإيطاليا، وهي تدفع في اتجاه إجراء استفتاء على الدستور تمهيدا للانتخابات، التي تُصرُ هذه الأطراف على إجرائها في ميقاتها. ودلت تسمية السفير الأمريكي لدى ليبيا رتشارد نورلاند في 10 أيار/مايو الجاري، مبعوثا خاصا للولايات المتحدة إلى ليبيا، على الأهمية التي يوليها الأمريكيون لإنهاء الحرب الأهلية في ليبيا، من دون رجعة. والأرجح أنهم قد بلجؤون إلى المحكمة الجنائية الدولية لمقاضاة أمراء الحرب، الذين يعطلون تنفيذ خارطة الطريق، وفرض الانسحاب على المرتزقة أيا كانت جنسياتهم. ومن المنتظر أن تتكثف تلك الجهود تمهيدا لمؤتمر برلين الشهر المقبل.
أكثر من ذلك لاحظنا أن المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان وجنوب السودان دونالد بوث، حض أخيرا قادة حركات المعارضة السودانية المسلحة إلى سحب مقاتليهم من ليبيا، باعتبارهم باتوا جزءا من الحكومة الحالية.
موعد نهائي
هذا عن أمريكا واوروبا، أما الشق الثاني من الدول، والذي تمثله تركيا وروسيا وبدرجة أقل مصر، فيعمل على تقويض العملية السياسية وإرجاء الانتخابات إلى أجل غير مسمى، وهو الخيار الذي يُتيح لكل من تركيا وروسيا الإبقاء على قواتهما في ليبيا. ويتماهى خيار الفريق الأول مع موقف الداعين إلى التزام الموعد النهائي لوضع الإطار الدستوري والانتخابي، وهو المحدد بالأول من تموز/يوليو المقبل، وذاك ما دعا إليه مجلس الأمن في قراره الرقم 2570، من أجل تمكين المفوضية الوطنية العليا للانتخابات من المُضي قُدُما في الاعداد لذلك الاستحقاق.
ويُعتبر هذا القرار، معطوفا على الحراك الأمريكي المتسارع في الملف الليبي، دليلا على حجم الضغوط الدولية الدافعة باتجاه حلحلة الأزمة ووضع حد نهائي للحرب الأهلية. وجددت واشنطن تأكيد هذا الموقف من خلال المكالمة ألتي أجراها وزير الشؤون الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الاثنين الماضي مع نظيره التونسي عثمان الجرندي وقد ركزاها على التطورات في ليبيا. واعتبر بلينكن أن استكمال المسار السياسي سينعكس إيجابا على ليبيا وكامل منطقة البحر المتوسط.
مواقف غامضة
ويبدو من خلال الاتصالات المكثفة بين السفير نورلاند ورئيس مجلس إدارة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، عماد السايح أن واشنطن ساعية لإجراء الانتخابات في موعدها، إلا أن السايح يعتقد أن «القرار السياسي بخصوص إجراء الانتخابات في الموعد المُقرر لم يُحسم بعدُ» معتبرا أن مواقف الأطراف السياسية في الداخل والخارج «ما زالت إلى الآن غامضة» بحسب ما قال في حوار صحافي.
ولفت السايح إلى انقسام الموقف الدولي في شأن الانتخابات، مؤكدا أن الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي يدعمان إجراءها في ميقاتها، بينما «تعمل دول أخرى (لم يُسمها) على عرقلة هذه العملية، مهما كانت الكلفة». أكثر من ذلك، أكد السايح أن تلك الدول «تعبر في العلن عن تأييدها لإجراء الانتخابات، إلا أنها تعمل بشكل معاكس مع حلفائها داخل ليبيا لعرقلة هذه العملية بأي شكل من الأشكال».
العائق الأكبر
على هذا الأساس يمكن القول إن الشروط الفنية للانتخابات باتت شبه مكتملة، إذ ستنتهي مفوضية الانتخابات من 90 في المئة من التحضيرات، بحلول منتصف الشهر المقبل، بحسب ما ذكر رئيسها، غير أن العائق الكبير يبقى سياسيا، بسبب تباعد المصالح بين القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على الأرض الليبية. ومن هنا يغدو استكمال المسار العسكري أكثر من ضروري، لضمان استقرار الأوضاع وقطع الطريق على العودة إلى الحرب.
كما بات من الضروري أيضا توحيد باقي المؤسسات التنفيذية واستكمال مسار المصالحة الوطنية، التي بدأ الحديث عنها في الفترة الأخيرة، لكن لم يتم البدء بإعداد شروطها.