رشيد خشـــانة – استبق الجنرال المتقاعد خليفة حفتر مؤتمر برلين 2 المُقرر للأربعاء المقبل، مُكررا سيناريو 2019 عندما أجهض مؤتمر غدامس للمصالحة، مُطلقا هجوما عسكريا على العاصمة طرابلس.
في هذه المرة كانت وجهته الجنوب، حيث استفاد من ضعف حضور الدولة، لكي يسيطر على المنطقة عسكريا في وقت قياسي، واستطرادا ليُعزز موقعه في المفاوضات المقبلة على صيغة الخروج من الأزمة. وأتت عملية الاجتياح في وضع أمني شديد التوتر على الصعيدين الإقليمي والداخلي، إذ تزامن مقتلُ زعيم جماعة «بوكو حرام» مع إجراء مناورات «الأسد الأفريقي» في المغرب، بالاشتراك مع قوات «أفريكوم» (القيادة الأمريكية لأفريقيا) ومع قرار ماكرون سحب القوات الفرنسية من مالي والنيجر وتشاد. وانتهز حفتر الوضع الأمني المتدهور في منطقة الساحل، للتحرك نحو مدينة سبها عاصمة اقليم فزان (جنوب) في محاولة لتطويق العاصمة طرابلس، من الشرق والجنوب.
تدل نوعية المناورات الأطلسية، التي انتهت يوم الجمعة، على أنها ترمي للتدريب على ملاحقة الجماعات الإرهابية، إذ شملت المناورات هبوطا بالمظلات وإطلاق قذائف في الصحراء، وتدريبات أخرى، خاصة بمطاردة العناصر الإرهابية. ولم يمض يومان على انطلاق مناورات «الأسد الأفريقي» حتى أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لم تشارك قواته في مناورات المغرب، عن انتهاء عملية «برخان». وكانت باريس جندت في إطار تلك العملية 5100 عسكري لقطع الطريق أمام تمدُد تنظيمي «القاعدة» و»داعش» في منطقة الساحل والصحراء. بهذا المعنى يُعتبر الوضع في الجنوب الليبي في قلب الصراع الإقليمي والدولي، وهو محط أنظار المجموعات العالمية، بحكم موقعه المفتوح على الهلال النفطي.
وبالرغم من التقدم الذي تم إحرازه مع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، تشير معلومات الأمم المتحدة إلى أن حوالي 70 رحلة شحن وإمداد وصلت إلى المطارات الشرقية، منذ 8 تموز/يوليو الماضي، دعماً للجيش الذي يقوده الجنرال حفتر، في حين تم تسيير 30 رحلة شحن وإمداد إلى مطارات في غرب ليبيا، دعماً لحكومة الوفاق الوطني السابقة. وبحسب البيانات الأممية نفسها، وصلت ثلاث سفن لدعم قوات حفتر، وتسع سفن شحن لدعم حكومة الوفاق الوطني، التي كان يقودها فائز السراج، في انتهاك واضح لسيادة ليبيا. كما أن تخزين الأسلحة والمعدات المتطورة يعد أيضًا انتهاكًا لحظر إرسال الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة، منذ الانتفاضة التي أطاحت بنظام معمر القذافي في عام 2011.
أزمات خانقة
ويشكو عمداء المجالس البلدية الجنوبية، وعددها 16 مجلسا، من أزمات خانقة، أبرزها غياب الأمن وانقطاع الكهرباء ونقص السيولة في المصارف ونقص الوقود وغاز الطهي. وشكوا كذلك من ارتفاع أسعار السلع، فضلاً عن هشاشة الأوضاع المعيشية ونقص الخدمات الاجتماعية. وأظهر تقرير تم تقديمه إلى «لجنة عقوبات ليبيا» التابعة لمجلس الأمن الدولي، أن روسيا سيَرت نحو 338 رحلة شحن من سوريا إلى ليبيا بين تشرين الثاني/نوفمبر 2019 وتموز/يوليو 2020. واعتبر التقرير أن روسيا وتركيا والإمارات والأردن وقطر انتهكت جميعا حظر إرسال الأسلحة، وفقا لمراقبي العقوبات.
يُضاف إلى تلك الانتهاكات أن رُعاة الحرب الإقليميين والدوليين، يرسلون ضباطهم وخبراءهم العسكريين ليتحصنوا في القواعد الجوية الليبية الرئيسة، في الشرق والغرب على السواء. وفي المقابل جندت تركيا من جانبها المقاتلين السوريين «المعارضين» للانضمام إلى القتال ضد حفتر. وأفاد تقرير حديث أعدته الرقابة الحكومية الأمريكية أن أنقرة أرسلت إلى ليبيا ما لا يقل عن 5000 مسلح من سوريا، وتوقع التقرير أن يساهم وجودُهم هناك في التأثير سلبًا على الوضع الأمني العام. وفي وقت سابق من هذه السنة أكد تقرير للأمم المتحدة أن ما يصل إلى 1200 متعاقد عسكري من شركة الأمن الروسية الخاصة «فاغنر غروب» يعملون في ليبيا لدعم قوات حفتر. لكن مصادر أخرى قدرت عددهم بأكثر من ثلاثة آلاف مرتزق.
دعم أمريكي
من هنا أتى الموقف الأمريكي الذي لا يُحبذ القطيعة مع حفتر، بالرغم من الدعم الواضح الذي تقدمه أمريكا لحكومة الدبيبة، وهي التي فرضت، على سبيل المثال، على قوات «الوفاق» البقاء على مبعدة من سرت والجفرة، والامتناع عن أخذهما، بعدما كانت على قاب قوسين من السيطرة عليهما. واستطرادا راهنت باريس، بحسب مصادر فرنسية على وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، بوصفه الرجل الوحيد في المنطقة الغربية، القادر على التفاوض مع حفتر، بحكم الشعبية التي يحظى بها في كل من مصراتة وطرابس. وسعى ماكرون، بحسب تلك المصادر، إلى توزيع الأدوار بين حفتر وباشاغا، بحيث يتولى الأول الجيش والأمن، فيما يتعهد الثاني بمراقبة الميليشيات، وهو ما يعني إضعاف خصوم اللواء المتقاعد، بمنحه دورا أكبر مما يستحق، خاصة عقب إخفاق حملته العسكرية للاستيلاء على طرابلس. وفي هذا الإطار روج الفرنسيون إلى كون حفتر قبل بتنفيذ الترتيبات الأمنية المُضمنة في وثيقة ملحقة باتفاق برلين، غير أن هجومه الجديد على الجنوب ينفي ذلك تماما.
تعقُبُ الإرهابيين؟
مثل العادة لجأت «القيادة العامة» (حفتر) إلى التلويح بورقة مكافحة الإرهاب لتبرير العملية العسكرية الجديدة، إذ ذكر الناطق باسمه أحمد المسماري أن الهدف هو «تعقب الإرهابيين التكفيريين وطرد عصابات المرتزقة الأفارقة التي تهدد الأمن والاستقرار وتمارس النهب والسرقة والتخريب والتهريب بأنواعه». وهذه محاولة للتغطية على دور حفتر في تجنيد المرتزقة الأفارقة، وتحديدا من التشاديين والجنجويد السودانييين وجنسيات أخرى، بما في ذلك شبكات التهريب التي يديرها مع أبنائه.
وفي خطاب يبدو موجها إلى العواصم الغربية زعم المسماري مجددا أن الاستيلاء على الجنوب يرمي «لاجتثاث الإرهاب وقطع دابر كل مَن تسول له نفسه المساس بأمن ليبيا وكرامة الليبيين». وزاد أن هذه العملية تأتي ردًّا على «تصعيد العصابات التكفيرية للعمليات الإرهابية في الجنوب الغربي، واستهدافها موقعا أمنيا وعسكريا، بسيارة مفخخة». لكن لا شيء يؤكد أن عملية السيارة المفخخة ليست من صنيع قوات حفتر، للظهور بمظهر السد المنيع أمام تمدُد الجماعات الإرهابية في الجنوب.
أكثر من ذلك، كان يُخطط لغزو الجنوب بواسطة الأسلحة التي تدفقت عليه من حلفائه. وكشفت القيادة المركزية الأمريكية أن موسكو أرسلت 14 طائرة مقاتلة على الأقل إلى ليبيا، وأن الطيارين الروس يحلقون بها. ونشرت القيادة صوراً إضافية للأقمار الصناعية لقاعدة الجفرة الجوية في وسط البلاد.
وقدمت تلك الصور، أدلة على أن الكرملين أرسل الطائرات لتعزيز المليشيات التي تقاتل الحكومة المعترف بها دولياً، بقيادة حفتر.
وسلط موقع «ذا درايف» المهتم بالشؤون الدفاعية والعسكرية، الضوء على التدخل الروسي مع تركيز خاص على الأدلة التي نشرتها القيادة الأمريكية، لتوضح أن الطائرات من نوع «اس يو-24» ومقاتلات «ميغ 29» قد غادرت روسيا على مدار عدة أيام، وكانت جميعها تحمل علامة سلاح الجو الروسي. وأوضحت أنه تم طلاء الطائرات مرة أخرى في قاعدة حميميم في سوريا، لتظهر بدون علامات وطنية. وبعد ذلك تم نقلها إلى ليبيا، حيث سُلم ما لا يقل عن 14 طائرة روسية غير مميزة إلى القائمين على قاعدة الجفرة الجوية.
تنصل من المسؤولية
مع ذلك يستبعد مراقبون أن تندلع أية مواجهة مباشرة بين دول أجنبية على الأراضي الليبية، خاصة في ظل المصاعب التي تمر بها فرنسا، وهي أحد الداعمين البارزين للجنرال حفتر. وبسبب إخفاق سياستها في منطقة الساحل والصحراء، تتخبط باريس حاليا في أزمة حادة تريد تحميل مسؤوليتها إلى حلفائها في المنطقة، وهم رؤساء كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا. كما أن تدخلها العسكري يثير موجات غضب متزايدة لدى الرأي العام في تلك البلدان. ومما زاد هذا الملف تعقيدا الصراعات الداخلية الفرنسية، في شأن استمرار التدخل العسكري في الساحل والصحراء من عدمه، إذ طالبت شخصيات سياسية بارزة بحقن دماء العسكريين الفرنسيين، المشاركين في عملية «برخان» بإعادتهم فورا إلى بلدهم.
ويُقدر عدد قوة «برخان» بـ4500 رجل قُتل منهم 26 جنديا في حادثة «تصادم» بين مروحيتين فرنسيتين، بحسب الرواية الرسمية، التي تحوم حولها شكوك كثيرة. وهي امتداد لعملية «سرفال» (2013) التي لم تُحقق الأهداف المأمولة منها. ويذهب محللون إلى القول إن فرنسا باتت هدفا لخطاب وطني راديكالي في أفريقيا، يُدار في إطاره التنافس الروسي والصيني، وحتى التركي، مع الدول الأوروبية. فبعد الترحيب بوصول الجنود الفرنسيين إلى مالي ضمن عملية «سرفال 2013» بات هؤلاء يعتبرون اليوم بمثابة غزاة جدد.
حصاد روسي
في المقابل بدأت روسيا تحصد ثمار تركيزها في الفترة الأخيرة على تعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية، وخاصة في أعقاب القمة الأولى الروسية الأفريقية، التي عقدت في سوتشي العام الماضي، ما وسع من حضورها في بلدان عدة، من بينها ليبيا ومالي وموزمبيق ومدغشقر والسودان، تحت ذريعة «المعركة ضد الإرهاب». غير أن موسكو تنكر أية صلة لها بالشركة الأمنية الروسية الخاصة «فاغنر»، التي شوهد مستشاروها يُحاربون إلى جانب مقاتلي اللواء حفتر.
لكن يمكن القول مع ذلك، إن الروس وصلوا متأخرين إلى ليبيا، لأنهم كانوا مشغولين بترتيب البيت الداخلي، وأيضا لأن تدخل حلف شمال الأطلسي في 2011 أربكهم، وهم يسعون الآن إلى التعويض عما فات. والمؤكد أيضا أن الأمريكيين والأوروبيين والخليجيين سبقوهم إليها، وأن لدى الأخيرين حلفاء يعتمدون عليهم في إطار حرب بالوكالة، الخاسر الأول فيها هم الليبيون أنفسهم.
ولخص غسان سلامة هذا الوضع بقوله «جوهر الأزمة في ليبيا هو صراع على الثروة، يتخذ شكل الصراع على السلطة». على أن هذا الصراع، خاصة في بُعده الليبي-الليبي، لا يخضع إلى ضوابط ولا يحتكم إلى قوانين، مما يستدعي أولا وقبل كل شيء تخليص القرار الليبي من الولاءات الخارجية، وتحصين البلد والمجتمع من الصراعات العنيفة، بعد سنوات من تصفية الحسابات القديمة والعقيمة. وإذا كانت ليبيا خسرت نصف سكانها في حروب أهلية مطلع القرن الماضي، فليس جائزا اليوم أن يُقتل رُبع الليبيين أو عُشرهم، أو حتى ليبيٌ واحدٌ، في صراع أهلي، أيا كانت مُبرراته وعناوينه.