رشيد خشـــانة – حفتر يُعدُ العدة للعودة إلى الحرب انسجاما مع قناعات عبر عنها في أكثر من مناسبة، مفادها أن حل الصراع في ليبيا لا يمكن أن يكون إلا عسكريا.
عادت التجاذبات الحزبية والمناطقية إلى السيطرة على المشهد الليبي، على نحو عطل الاستعدادات لإجراء الانتخابات العامة المقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل. وعادت في هذه الأجواء المشحونة، الاستقطابات الإقليمية والدولية السابقة لتطفو على السطح مُجددا، بعدما توارت طيلة الفترة الأخيرة. ومن علاماتها الوفد الذي أرسله القائد العسكري للمنطقة الشرقية الجنرال خليفة حفتر إلى موسكو، وزيارة رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي إلى اليونان، غريمة تركيا المُعلنة. ويجدر التذكير في هذا المضمار بأن آخر منصب شغله المنفي هو سفير في أثينا، وقامت السلطات اليونانية بطرده في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 ردا على توقيع رئيس حكومة الوفاق الوطني السابقة فائز السراج على اتفاق عسكري مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في طرابلس.
واعتبر الباحث في معهد «راند» ناثان فاست أن اليونان، إلى جانب كل من السعودية وفرنسا، تدعم محور الإمارات وروسيا ومصر. وكان المنفي توعد تركيا بتجميد التعاون الاقتصادي معها، في حال امتنعت عن سحب قواتها من ليبيا. وهذا مخالف لموقف رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، الذي أكد أن الحضور العسكري التركي في ليبيا يقتصر على عدد محدود من الخبراء والمدربين العسكريين.
وبالتزامن مع وجود المنفي في أثينا، أوفد الجنرال حفتر وفدا عسكريا رفيع المستوى إلى موسكو، بقيادة الفريق خيري التميمي مدير مكتبه وعضو اللجنة العسكرية المشتركة «5+5». وكان حفتر زار موسكو أكثر من ثلاث مرات منذ 2017 ووقع خلال زياراته السابقة على اتفاقات للتعاون العسكري، في أعقاب محادثاته مع وزير الدفاع الروسي سيرغاي شويغو. وتدل زيارة الوفد الليبي إلى موسكو على رغبة حفتر في تجديد آلياته وتعزيز قوته العسكرية، خاصة بعدما أصر رئيس مجلس النواب عقيلة صالح على رفض إجازة الموازنة الجديدة إذا لم تُخصص حصة كبيرة منها، لم يُحدد حجمها، لـ»الجيش الوطني الليبي» (قوات حفتر والمليشيات الأجنبية الموالية له).
ومن غير المستبعد في حال وقع الفريق التميمي على اتفاقات جديدة مع الروس، أن تتولى الدول العربية الداعمة لحفتر دفع فاتورة الأسلحة الجديدة. والأرجح بناء على ذلك، أن حفتر يُعدُ العدة للعودة إلى الحرب انسجاما مع قناعات عبر عنها في أكثر من مناسبة، مفادها أن حل الصراع في ليبيا لا يمكن أن يكون إلا عسكريا.
وبدت التطورات السياسية والعسكرية الأخيرة في دول الساحل الثلاث تشاد ومالي والنيجر، وكأنها تُبرر هذا الخيار العسكري، بعدما أطاحت الجماعات المسلحة برئيس تشاد ادريس ديبي، وتتابعت الانقلابات العسكرية في البلدان الأخرى، وخاصة في أعقاب إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن سحب قوات عملية «برخان» من منطقة الساحل والصحراء بشكل مفاجئ. ومع رفع حاجز «برخان» وغلق القواعد الفرنسية هناك، سيكون الجنوب الليبي مكشوفا ومُتاحا للجماعات المسلحة الضالعة في تجارة الأسلحة والذهب والمخدرات، أو للتنظيمات الارهابية الدولية، وفي مقدمها تنظيم الدولة «داعش» وتنظيم «القاعدة»، اللذان يحرصان بين الفينة والأخرى على تنفيذ عمليات إرهابية للتذكير بكونهما لم يُغادرا المنطقة. وكان»تنظيم الدولة» انهزم في معركة «البنيان المرصوص»، التي اضطرت عناصرُهُ على إثرها للانسحاب من سرت ومحيطها في آب/اغسطس 2016. ولم تشارك قوات حفتر في تلك المعركة، على الرغم من رفعها شعار مكافحة الإرهاب.
الروس والصينيون قادمون؟
والأرجح أن عدم قدرة حكومة الوحدة الوطنية على بسط سلطة الدولة مجددا على الجنوب المترامي الأطراف، سيشجع قوى دولية أخرى، أسوة بالروس والصينيين، على الاستفادة من الفراغ العسكري والأمني في الجنوب الليبي، للاستحواذ على منطقة نفوذ استراتيجي جديدة. ويبدو الأمر أيسر على الروس، بعدما ضمنوا من خلال تحالفهم مع الجنرال حفتر، جسرا قويا إلى منطقة الساحل والصحراء، التي ظلت منذ «استقلالها» عن فرنسا، في مطلع العقد السادس من القرن الماضي، حكرا على الفرنسيين تقريبا.
وتتسابق القوى الكبرى بحثا عن موطئ قدم في هذه المنطقة، بسبب ما تحويه من ثروات طبيعية منها اليورانيوم والذهب. لكن يُخشى مع الانسحاب العسكري الفرنسي، أن تُعزز التنظيمات الارهابية وجودها وتقيم جسرا مع جماعة «بوكو حرام» المتمركزة في شمال نيجريا. والمُلاحظ أن زعيم المتمردين التشاديين محمد مهدي، الذي قاد هجومًا على شمال تشاد انطلاقًا من جنوب ليبيا، أقر في تصريحات صحفية أن ميليشياته تلقت تدريبات على أيدي عناصر شركة «فاغنر» الأمنية الروسية في قاعدتي براك الشاطئ وتمنهنت الليبيتين، اللتين يسيطر عليهما حفتر، ومناطق أخرى من الجنوب الليبي.
تزامنا مع العودة، غير المُعلنة بوضوح، للجنرال حفتر إلى ترجيح الحل العسكري، وزيادة على سحب الغطاء الفرنسي عن الجنوب الليبي وجواره، تتعرض المفوضية العليا للانتخابات لحملة شديدة تساهم في تعطيل مسار تنفيذ خارطة الطريق التي وضعها مؤتمر برلين2 لحل الأزمة الليبية. ومن الواضح أن خلف الحملة أطراف لا تريد للانتخابات أن تتم، اللهم إلا إذا ما أفضت إلى ترئيسهم، وفي مقدم هؤلاء الجنرال حفتر. وانطلقت الحملة ضد المفوضية، ورئيسها الدكتور عماد السائح، مع ترويج نسخة مُسربة من التوزيع الجغرافي للدوائر، تم تداولها على شبكات التواصل الاجتماعي. وتضمنت النسخة المُسربة تعديلات منسوبة إلى رئيس المفوضية، أثارت حفيظة بعض أعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، والمعروفة بـ»لجنة الستين». غير أن رئيس المفوضية رد على الاتهامات بخرق القوانين، مؤكدا أن توزيع الدوائر أتى بناء على طلب من مجلس النواب، وموضحا أن تحديدها يتم على أساس الكثافة السكانية والتوزيع الجغرافي. كما اتهم أطرافا لم يُسمها بـ»التلاعب والتزوير»، وعرقلة جهود المفوضية، الرامية لنشر ثقافة الديمقراطية.
7 ملايين ليبي
واستندت المفوضية على إحصاءات السجل المدني للعام الماضي، لتقترح على مجلس النواب الترفيع من عدد الدوائر الانتخابية والمقاعد النيابية إلى 234 مقعدا، وهي لا تتجاوز حاليا 200 مقعد، بالإضافة لزيادة عدد الدوائر إلى 32 دائرة بدل 13 حاليا. وأظهرت إحصاءات السجل التجاري أن عدد سكان ليبيا يبلغ 6.9 مليون نسمة، من ضمنهم مليونان و382 ألفا و68 شخصا يتمتعون بحق التصويت في الاستحقاقات الانتخابية. وأعلنت المفوضية في 4 تموز/يوليو الجاري عن فتح سجل الناخبين. أكثر من ذلك، اعتبر السائح أن الحملة تتسق مع العملية الإرهابية التي استهدفت مقر المفوضية في الثاني من أيار/مايو العام 2018 وأسفرت عن قتل وجرح عدد من موظفيها.
ربما العقبة الأكبر في طريق إجراء الانتخابات لا تتردد كثيرا على الألسنة، وهي الكميات الكبيرة من السلاح الثقيل، التي تكفي لحربين أهليتين أخريين، والموزعة على كافة أنحاء ليبيا. ولم تتراجع هذه الكميات بعد نهاية القتال بين قوات حفتر وقوات حكومة الوفاق، إذ أن «التموين» بذلك النوع من السلاح استمر في الجانبين، ما جعل الاتحاد الأوروبي يُفكر في التدخل العسكري في ليبيا لجمع تلك الأسلحة الثقيلة. غير أن الخوف من التورط في حرب بلا نهاية جعل الأوروبيين يبحثون عن بدائل أخرى. وزاد الأمر تعقيدا مع إصرار تركيا على خرق قرارات حظر تصدير السلاح إلى ليبيا ورفض إخضاع سفنها للتفتيش، الذي تتولاه خافرات أوروبية في إطار عملية «إيريني». مع ذلك بحث مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة طاهر السني اخيرا في نيويورك، مع قائد «عملية إيريني» فابيو اغوستينو، إمكانات «التشاور والتنسيق» في العمليات التي يقوم بها الاتحاد الأوروبي في البحر المتوسط، مع حكومة الوحدة الوطنية وأجهزتها المتخصصة، بحسب ما أورد بيان صادر عن البعثة الليبية لدى الأمم المتحدة.
وأظهرت المعارك التي دارت في أحياء مدينة طرابلس، وتحديدا في منطقة باب بن غشير، في ثالث أيام العيد بين مليشيا «الردع» التي يقودها عبد الرؤوف كارة وميليشيا عبد الغني الككلي، (الشهير بـ»غنيوة») وتُعرف بـ»دعم الاستقرار» الأخطار الجمة التي يمثلها استمرار وجود السلاح الثقيل داخل المدن، علما أن ميليشيا الككلي تشكلت إبان فترة حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج. وقد استخدم الفريقان قذائف الأر بي جي في المناطق السكنية، ما أثار الهلع بين المواطنين وأدى إلى مقتل سبعة مدنيين على الأقل.
وتحذيرا من التدفق المتزايد لكميات السلاح الثقيل، عوض تراجعه بعد نهاية «انتفاضة 17 فبراير2011» التي عصفت بالنظام السابق، نبه مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة السابق غسان سلامة من وجود 23 مليون قطعة سلاح في ليبيا، «لا تقدر الدولة على جمعها أو ضبطها» مؤكدا أن دول الجوار وهي مصر وتونس والجزائر، وأيضا النيجر وتشاد، لديها مخاوف حقيقية من هذا الوضع. ويُعتبر استمرار تقسيم العاصمة طرابلس إلى مربعات نفوذ، يتقاسمها قادة الميليشيات، خطرا مباشرا على إمكانية إجراء الانتخابات في مناخ طبيعي، كي تكون انتخابات حرة ونزيهة وشفافة. لا بل يُرجح كثير من المحللين أن يحتدم الصراع المسلح من جديد، بسبب رفض الخاسرين المحتملين نتائج الصندوق.
300 ميليشيا مسلحة
إذا كان تعريف الدولة، بحسب ماكس فيبر، هو القوة التي تحتكر السلاح، فإن الدولة بهذا المعنى اختفت من ليبيا منذ 2011. وفي معلومات موقع «الوسط» الإخباري الليبي أن أكثر من 300 ميليشيا مسلحة تنشط حاليا في ليبيا، وهي لا تعترف بالسلطة المركزية، لا بل وتبتزها لدفع مخصصات عناصرها. كما ابتز رئيس مجلس النواب عقيلة صالح بدوره الحكومة المؤقتة، عندما اشترط لتصديق مجلس النواب على الموازنة الجديدة 2021 تخصيص قسم كبير منها للجنرال حفتر وقواته المسلحة. بهذا المعنى يلتقي زعماء الميليشيات في الغرب مع القائد العسكري للمنطقة الشرقية حفتر على موقف موحد، وهو استبعاد الانتخابات في الأمد المنظور وإرجاؤها إلى تاريخ غير مسمى، مع إضعاف السلطة المركزية إلى أبعد الحدود، لكي يتعزز نفوذهم في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم. وتجلى ذلك من خلال النظام الاستبدادي الذي أقيم في المنطقة الشرقية، وقضى على كل نفس نقدي وصادر حرية الاعلام وحارب النشطاء والناشطات، وآخرهن النائبة والحقوقية سهام سيرقيوة، التي لم يُعرف مصيرها، بالرغم من مُضي أكثر من سنتين على اختطافها على يد أحد أبناء الجنرال حفتر.
من هنا يجوز التساؤل عن مدى قابلية الوضع الراهن لإجراء انتخابات بالمعايير الدولية، وسط غابة من الأسلحة المتوسطة والثقيلة، في الشرق كما في الغرب، فضلا عن الجنوب المتروك لمصيره، منذ أكثر من عشر سنوات، في غياب مؤسسات الدولة؟