رشيد خشــانة – هل تكون الانتخابات فعلا طوق نجاة، مثلما يُؤمل ذلك غالبية الليبيين، الذين ضاقوا ضرعا بالمعاناة على كافة الأصعدة؟ مؤشرات كثيرة تُبين أن المسار الحالي وضع العربة أمام الحصان.
من الصعب أن يتوقع المرءُ عودة الاستقرار إلى ليبيا بالكامل، بمجرد إجراء الانتخابات والإعلان عن نتائجها، فماذا فعل الفرقاء لكي يسود بينهم نمط جديد من العلاقات يُنهي الاحتراب، المستمر منذ أكثر من ستة أعوام؟ وما الضمانة أن الجميع سيقبل بالنتائج ولا يطعن في مصداقيتها؟ كان المفروض أن تسبق العملية الانتخابية تسوية بين المتحاربين، أسوة بـ»اتفاق الطائف» بين الفصائل اللبنانية، ومن خلفها الطوائف، والاعتراف المشترك بحق الآخر في الوجود. وغيابُ مثل هذه التسوية من ليبيا اليوم، يجعل الريبة والحذر يسيطران على موقف هذا الفريق وذاك. ويتعمق هذا الشعور ويتفاقم مع استمرار تدفق الأسلحة على الفريقين بكميات يعتبرها خبراء الأمم المتحدة كافية لتغذية نزاع مسلح جديد بين الطرفين.
لكن مصادر ليبية حسنة الاطلاع تستبعد عودة الحرب التي تحتاج إلى ممولين وداعمين ودول إقليمية راعية، بينما يظهر أن هذه الأخيرة اتفقت في ما بينها على عدم تصعيد الموقف من جديد لعدة اعتبارات. وهذا ما يعني استبعاد فرضية الحرب ليظل الباب مفتوحا أمام المسار السياسي ومن ضمنه الانتخابات.
مع ذلك ترى الأمم المتحدة أن استمرار وجود مرتزقة تشاديين وسودانيين وسوريين، بالإضافة إلى الروس، يشكل «تهديدا جديا» للسلام، حسب تقرير أعده خبراء المنظمة الأممية، وسجل مؤلفوه تراجعا في عدد الجسور الجوية بين ليبيا وكل من الإمارات وروسيا وتركيا، وأن رحلات القوات الجوية التركية تراجعت في العام الجاري بنسبة 64 في المئة، فيما تراجعت رحلات الطيران العسكري الروسي نحو مطارات المنطقة الشرقية من ليبيا، التي يحكمها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بنسبة 55 في المئة، وبعضها توقفٌ مؤقتٌ، لأسباب فنية، في الطريق إلى جمهورية أفريقيا الوسطى. في المقابل، زاد عدد الرحلات التي أمنتها شركة «أجنحة الشام» السورية بنسبة 71 في المئة، والأرجح أنها تُستخدم في نوبات جلب المقاتلين وإعادتهم إلى سوريا.
أخطر ما في التقرير الأممي الذي تم توزيعه على أعضاء مجلس الأمن، أن غالبية الأراضي الليبية توجد تحت سيطرة جماعات مسلحة، تستفيد من حال تعايش مع السلطات المؤقتة الحالية في طرابلس. وقد تمكنت بعثة المراقبين الأمميين من زيارة معقل اللواء حفتر، للمرة الأولى منذ 2017 إلا أنها أشارت في الوقت نفسه إلى بعض الدول، من دون تسميتها، التي قالت إنها تُعرقل عمل البعثة في مراقبة إدخال الأسلحة، والكشف عن الخروق في هذا المجال.
أكثر من ذلك، شدد التقرير، بوضوح، على أنه لا يملك أي دليل على أن عمليات واسعة لسحب الأسلحة قد تمت في الفترة الأخيرة. لا بل إن أصحاب التقرير اتهموا فرنسا ببيع نظام مراقبة الكتروني للمكالمات الهاتفية إلى قوات اللواء حفتر. كما باعت إلى مصر منظومة مُشابهة. والظاهر أن مجموعة «نكسا تكنولوجيس» الحربية الفرنسية هي من باع حفتر نظام المراقبة الالكتروني، عبر وكالتها في الامارات، علما أن القضاء الفرنسي الخاص بمكافحة الارهاب امتنع عن إعطاء أية تفاصيل عن الصفقة. أما الجانب التركي، فيستخدم مرتزقة سوريين، يتقاضون ما بين 800 و2000 دولار شهريا، بحسب التقرير.
تقارب تركي إماراتي
لكن بالرغم من هذه المؤشرات غير المُطمئنة، يرى مُحللون أن أجواء التقارب بين القوى الإقليمية المُتداخلة في الملف الليبي، تؤكد أن الجميع ملوا من الحروب، وهم يسعون إلى تسوية من شأنها إعادة الاستقرار إلى بلد يُعدُ مفتاحا للمنطقة الممتدة من السواحل الجنوبية للمتوسط إلى الصحراء الكبرى والساحل الأفريقي. ومن أمارات ذلك التقارب زيارة ولي عهد الامارات إلى تركيا أخيرا، وتوقيع حكومة الوحدة الوطنية الليبية اتفاقات اقتصادية كبيرة مع شركات مصرية، وعودة الحرارة إلى العلاقات المصرية القطرية. كلُ تلك الخطوات تنم عن استبعاد القوى الاقليمية للخيار العسكري، بعدما اتضحت قلة جدواه، وجنحت بدلا من ذلك، إلى التفاهم على مائدة حوار.
ومع أن الشهر الماضي شهد عدة تطورات إيجابية، إلا أن أصوات المعارضين للانتخابات، وهم أساسا من مجموعات الإسلام السياسي، شوشت على المسار الانتخابي، بالإضافة لمحاولات كل فريق من المُترشحين قطع الطريق أمام خصومه، وإخراجهم تماما من حلبة السباق. هذه الأجواء المشحونة حملت معها تهديدات جدية بعرقلة العملية الانتخابية، وربما إرجائها تماما، ما جعل وزارتي الداخلية والعدل تصدران بيانا تحذيريا مشتركا. ويدعو المعارضون للانتخابات إلى إجراء استفتاء على مشروع الدستور يسبق العملية الانتخابية.
سيف الإسلام: المحكمة أم الرئاسة؟
وكشفت ملابسات طعن سيف الإسلام، نجل معمر القذافي، بقرار استبعاده من الانتخابات، لدى مُجمع محاكم سبها (جنوب) وما رافقها من حصار للمحكمة، عن هشاشة الخطة الأمنية، بالرغم من السماح لأعضاء المحكمة لاحقا بالدخول إليها. لكن العملية نزعت اللثام عن تحكم قوات حفتر في المنطقة الشرقية، بينما هو أحد المُرشحين لها.
في السياق شكلت إعادة نجل القذافي إلى حلبة السباق مفاجأة كبيرة للمراقبين في الداخل والخارج، وهو ما يحمل على الاعتقاد بأن الانتخابات (إذا تمت في ميقاتها المقرر ليوم 24 ديسمبر الجاري) ستكون معركة حامية الوطيس بين سيف الإسلام المدعوم من روسيا، وحفتر المدعوم من أمريكا.
وتجلى القلق الأمريكي من دخول سيف الإسلام إلى مضمار السباق من خلال تصريحات المستشار الأول للشؤون السياسية، بوزارة الخارجية السفير جيفري ديلورينتيس، الذي طلب من حكومة الوحدة الوطنية، إلقاء القبض على عبد الله السنوسي (صهر معمر القذافي ومدير مخابراته) وسيف الإسلام، وجميع المطلوبين، وتسليمهم إلى المحكمة الجنائية الدولية. وفي نبرة أعلى من المعهود في مثل هذه المواقف، أكد الأمريكيون أنهم لن يسمحوا بتهديد الاستحقاق الانتخابي، وهو تحذير يصعب أن تتجاهله الأطراف المعنية.
ولوحظ أن السفيرة البريطانية لدى ليبيا كارولاين هرندل، اتخذت الموقف نفسه، مُشددة على ضرورة مثول سيف الإسلام أمام المحكمة الجنائية الدولية. وهذا الاصرار سيقود إلى توترات كبيرة، بل إلى انقسام جديد بين الليبيين، ينطلق من الخلاف على محاكمة سيف الإسلام، ويتسع إلى العملية الانتخابية برمتها. ولا يُخفي الأمريكيون والبريطانيون عزمهم على دعم جهود المحاكم الليبية والمحكمة الدولية لإخضاع مرتكبي الجرائم للمساءلة، وضمان عدم الإفلات من العقاب وإنصاف الضحايا، انطلاقا من أن المساءلة عن الفظائع «يمكن أن تساهم في تحقيق المصالحة والسلام في ليبيا».
بهذا المعنى تُعتبر عودة سيف الإسلام إلى الظهور، يوم 14 من الشهر الماضي، ليُقدم لمفوضية الانتخابات ترشُحه للرئاسيات، اللغم الأكبر في مسار الانتخابات، بعدما توارى عن الأنظار طيلة أكثر من عشر سنوات. وتم الطعن في ترشُحه، واستُبعد فعلا من القائمة الأولية للمرشحين، إلا أن محكمة الاستئناف أعادته إلى السباق الانتخابي، ما أثار موجة امتعاض واسعة، بالنظر لدوره في مقتل 1200 معارض في سجن بوسليم في العام 2010، وضلوعه في قمع انتفاضة 17 فبراير في العام التالي.
يأتمرون بأوامر عليا
أما اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 فيبدو أنها غير قادرة، هي الأخرى، على تطبيق الحظر على توريد الأسلحة ولا على فرض إخراج المقاتلين من ليبيا، لأنها غير مستقلة، ويأتمر كل طرف من طرفيها بالتوجيهات التي يتلقاها من السلطات العليا، لذا من الصعب أن تُسفر زيارة أعضاء اللجنة حاليا إلى كل من تركيا وروسيا، لإجراء محادثات مع المسؤولين في البلدين، في شأن إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا، عن تقدم نوعي في هذا الباب.
صحيح أن اللجنة أعدت جدولا زمنيا لسحب أولئك المقاتلين، لكن فرص تطبيقه ضئيلة، وهو ما ينطبق أيضا على الاتفاقات التي توصلت لها مع دول الجوار، لتأمين عودة المرتزقة إلى بلدانهم. وكانت اللجنة اجتمعت في هذا الاطار، أواخر الشهر الماضي في تونس مع ممثلين من تشاد والنيجر والسودان، لضبط رزنامة استعادة مرتزقتها، في «عملية مرحلية ومتوازنة ومتسلسلة» على ما قالت بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا.
ومع رفض محكمة الاستئناف في طرابلس، الأربعاء الماضي، طعنين ضد المرشَّح عبد الحميد الدبيبة، وقرار إعادته إلى قائمة المرشحين المتنافسين على منصب رئيس الدولة، تعددت الألغام في طريق المسار الانتخابي. ولم تأخذ المحكمة في اعتبارها مخالفة المادة 12 من قانون انتخاب رئيس الدولة، وإخلال رئيس الوزراء المؤقت بالتعهد الذي قطعه على نفسه، خلال اجتماعات ملتقى الحوار السياسي في جنيف، في شباط/فبراير الماضي، بالامتناع من الترشح للرئاسيات.
في خط مواز تعكف المفوضية العليا للانتخابات على الاعداد للانتخابات النيابية، المقررة لبداية العام المقبل، وقد بلغ العدد الإجمالي للمترشحين لعضوية مجلس النواب في جميع الدوائر الانتخابية 3444 مترشحاً ومترشحة، بحسب الإحصاء الصادر الأربعاء الماضي. لكن أوان المعركة التشريعية مازال بعيدا نسبيا، خصوصا وسط التجاذبات والاستقطابات التي تسيطر على السباق الرئاسي. وهنا يمكن للأمم المتحدة أن تلعب دور الواقي من الصدمات، بقدرتها على الحوار مع جميع الأطراف. غير أن اختيار الموفدين الخاصين لم يكن موفقا في غالب الحالات، ولم يستطع من تداولوا على رئاسة البعثة فهم خصوصيات المجتمع الليبي وتفادي التعقيدات الشخصية في العلاقة مع مختلف الفرقاء والمحافظة على مسافة متساوية من الجميع. وعدا الأمريكية ستيفاني وليامز واللبناني/الفرنسي غسان سلامة، أخفق الموفدون السابقون في بناء علاقات ثقة متينة مع الفرقاء. ولم يشذ الموفد التشيكي الأخير يان كوبيش عن هذه القاعدة.
وربما تُعزى تلك الإخفاقات إلى ضعف معرفة أولئك المبعوثين بثقافة المجتمع الليبي وبنيته، بحكم انتمائهم إلى مجال ثقافي مختلف، ألماني أو اسباني أو تشيكي. وبعد استقالة كوبيش في أوج الإعداد لأول انتخابات في تاريخ ليبيا، لا بد للأمم المتحدة أن تتعظ من أخطائها السابقة، وتبحث عن موفد خاص جديد، يتمتع بخبرة دبلوماسية واسعة وإلمام أدنى بثقافة المجتمع الليبي.