رشيد خشـانة – لعبت الاحتجاجات الصاخبة في الساحة الخضراء ضد السلطات في الشرق والغرب، دورا مهما في جعل الخصوم يُفكرون مليا قبل اللجوء للقوة والاندفاع نحو قتال بعضهم البعض.
لكأن حرارة الطقس المُتقدة شحنت أعصاب السياسيين الليبيين في هذا الشهر الخانق، فسيطر على أحاديثهم التهديدُ المعجونُ بالوعد والوعيد. ومحور هذا الغليان صراعُ شرعيتين: الأولى لعبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية وزير الدفاع، ويتبعه رئيس الأركان العامة الفريق محمد الحداد، وقادة الأركان والمناطق العسكرية والفروع الرئيسة للجيش.
في المقابل هناك الشرعية التي استمدها صاحبها فتحي باشاغا، رئيس حكومة الاستقرار، من مجلس النواب، ومعه مجموعات شبه عسكرية، أبرزها قوات وزير الدفاع الأسبق أسامة الجويلي. وأسمع الجويلي صوته في هذه المواجهة الكلامية، فكان الصوت الأعلى، إذ أنه الوحيد الذي لوح بالدخول إلى طرابلس بالقوة، والإطاحة بالدبيبة وحكومته. وتأتي خطورة هذا الصراع من امتلاك كل طرف ذراعا مسلحة، ما يُهدد بالعودة إلى الحرب مجددا.
ومن أجل تفادي هذا الخطر المُحدق بالبلد، تحركت وساطات بحثا عن حل سياسي، من بينها تركيا التي جمعت رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح حول مائدة واحدة، بعدما تحسنت علاقات أنقرة مع قادة المنطقة الشرقية. ولئن لم يصدر بيان رسمي عن الاجتماع فإن التسريبات المتداولة تؤكد أن أيا من الطرفين لم يستبعد احتمال الوصول إلى حل وسط بين الخصمين. والأرجح أن أنقرة لن تعطل إعادة صياغة الحكومة بما يُحدث توازنا بين الطرفين، لا بل قد تكون هي الراعي الرسمي له. ومن العناصر التي تساعد على السير نحو خيار وفاقي ما أظهرته الاشتباكات، التي جرت مؤخرا في طرابلس ومصراتة، من تعادل في القوة، ما سيجعل أي صراع جديد إنهاكا لجسد مثخن بالجراح أصلا، بعد جميع المعارك التي جرت بين الإخوة الأعداء، والتي جعلت رجل الشارع الليبي أينما كان يقف بقوة ضد الحرب، كيفما كانت مبرراتها.
ويجوز القول إن الأتراك استثمروا انشغال أمريكا وأوروبا بالحرب الأوكرانية، وغياب الأمم المتحدة بعد نهاية مهمة ستيفاني ويليامز، ليتوغلوا أكثر في المشهد الليبي، بدعم من القوى الكبرى المؤثرة في هذا المشهد. وأتى البيان الخماسي لتلك القوى متناسقا مع الجهود التي تبذلها أنقرة لمنع تدهور الوضع والسير نحو الحرب مجددا، إذ أكد البيان على «ضرورة إيجاد سلطة تنفيذية جديدة» في إشارة غير مباشرة إلى الحكومة الثالثة. وهذه الدول هي أمريكا بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا. كما أن الإيطاليين بشكل خاص يدفعون نحو إقرار حل وسط، لاسيما بعدما تحسنت علاقاتهم مع الزعامات السياسية والعسكرية في المنطقة الشرقية، في أعقاب قطيعة استمرت سنوات. ومن تجلياتها غلق القنصلية الإيطالية في بنغازي، التي سيُعاد فتحها قريبا حسب تصريحات وزير الخارجية. ورأى الخبير الإيطالي دانييلي روفينيتي أيضا أنه يمكن إيجاد حل قريبًا للخروج من المأزق المؤسسي يتمثل في حكومة ثالثة تكون مهمتها الوحيدة هي بناء المسار الانتخابي.
ويسعى الأتراك، إلى وضع بصمتهم على أي اتفاق مقبل بين الفصائل الليبية، وهم يُمنون النفس بحصة مُعتبرة من مشاريع إعادة الإعمار، بما في ذلك في المنطقة الشرقية، التي أعادوا ترميم الجسور معها. وتجسيدا لهذا التغيير أكد السفير التركي لدى ليبيا كنعان يلماز، أن القنصلية العامة المغلقة في مدينة بنغازي، ستعود لتقديم خدماتها، من دون تحديد ميقات لذلك. واعتبر أن مصلحة تركيا تكمن في «التعاون مع حكومة قوية تتولى السلطة في ليبيا، وإزالة الخلافات السياسية وتحقيق المصالحة وإجراء الانتخابات». ودلت الحفاوة التي استقبل بها الأتراك رئيس مجلس النواب عقيلة صالح في أنقرة، مطلع آب/اغسطس الجاري، على حرصهم على أن يكونوا على مسافة واحدة من الجميع. ومن المحطات البارزة في تلك الزيارة استقبال الرئيس اردوغان لصالح واجتماع هذا الأخير مع نظيره التركي مصطفى شنطوب. ويجري التخطيط حاليا لترتيب زيارة لأعضاء مجموعة الصداقة البرلمانية التركية، إلى مدينة بنغازي، برئاسة النائب أحمد يلدز.
والظاهر أن مصر باتت تشجع، هي الأخرى، على إيجاد صيغة ثالثة للخروج من عنق الزجاجة، عن طريق حكومة مصغرة مهمتها المركزية الإعداد للانتخابات. وساهم التقارب بين القاهرة وأنقرة في ضم مصر إلى المساعي التوفيقية بشأن تشكيل الحكومة الثالثة. ويُعتقدُ أن التحرك المشترك للثنائي مصر وتركيا يضفي شرعية على الحل الجديد الذي ما زال قيد التبلور، علما أن العديد من الفاعلين الليبيين، من هذا الفريق أو ذاك، يعتبرون البلدين تركيا ومصر، في مثابة مرجعية لهم. أما الجزائر التي يُؤكد قادتها دوما أن لا حل في ليبيا من دون الجزائر، فستدعم التسوية السياسية طالما أن هذه التسوية تضمن عودة الاستقرار إلى ليبيا، واستطرادا فهي تخدم الأمن القومي للجزائر، الذي تزايدت التهديدات المُحدقة به، مع انتشار الجماعات المسلحة في دول جنوب الصحراء، بما فيها تلك التي تملك حدودا مشتركة مع الجزائر. ويرى الجزائريون أن الانتخابات هي أسلم الحلول لتجاوز الأزمة الليبية. وما يُرجح أن الجزائر ستدعم الحل الوسط، أن خطابها يشدد في كل مناسبة على أن «الانتخابات هي أفضل الحلول لتجاوز الأزمة الليبية». ومع أن الرئيس تبون سبق أن أعلن في تصريحات للتلفزيون الجزائري أن حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة «هي الحكومة صاحبة الشرعية في ليبيا» فإنه لن يكون المُعرقل لأي حل سياسي للأزمة. وما يُعزز هذه القناعة أن الجزائر ستستضيف القمة العربية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل تحت شعار «المصالحة العربية» وبالتالي ستسعى للخروج من القمة بنتيجة تختلف عن السردية العربية التقليدية في القمم السابقة.
من هم المُعرقلون؟
من الذي يعرقل إذا؟ لاشك بأن الدبيبة، الذي يمارس السلطة من موقع رئيس الحكومة منذ أكثر من سنة، لن يقبل الخروج من الباب الخلفي وتسليم المفاتيح إلى رئيس حكومة جديد سيعتبره أدنى منه كفاءة وخبرة بدواليب الدولة. وسبق أن ردد على مسامع من التقاهم في الداخل والخارج أنه لن يُسلم السلطة إلا إلى حكومة منتخبة. مع ذلك لو حصل إجماع من مجموعة الخمسة (أمريكا بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا) بالاضافة لتركيا ومصر والجزائر والإمارات، على ملامح الحل السياسي، فلن يصمد الدبيبة طويلا، لكنه سيطلب ثمنا باهظا لانسحابه، بما يخدم هدفه المُعلن بالترشُح للانتخابات الرئاسية المقبلة. ويمكن وضع الجنرال المتقاعد خليفة حفتر في لائحة المُعطلين، وفي مكان بارز، لأنه لا يرضى بالسيطرة على المنطقة الشرقية فقط، وإنما يسعى لوضع رجاله (ومن بينهم أولاده) في مؤسسات الدولة، تمهيدا للجلوس على سدة الرئاسة، التي كان يجلس عليها رفيقه الأسبق وغريمه الدائم معمر القذافي. وقبل خمسة أيام صرح الناطق الرسمي باسم «القيادة العامة» (قوات حفتر) أحمد المسماري أن «الشعب الليبي يرى في المشير خليفة حفتر الشخص الأصلح لقيادة المرحلة القادمة في ليبيا» بما يعني أن البلد ليس بحاجة لانتخابات أصلا وإنما إلى بيعة. والأرجح أن ثمن الصفقة بين حفتر والدبيبة تمثل بعزل رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، مصطفى صنع الله، الذي عين الدبيبة في مكانه الخبير المصرفي فرحات بن قدارة. ومع هذا التغيير على رأس أكبر مؤسسة في ليبيا، لن يلجأ حفتر مستقبلا إلى غلق الحقول والموانئ النفطية للضغط على الحكومة في طرابلس. وتوقع بعض المحللين أن تسمية بن قدارة على رأس مؤسسة النفط، «قد يفتح فصلًا جديدًا من التعاون مع برقة (الشرق) من خلال حفتر».
هذا الفصل الجديد عنوانه فتح الدبيبة خط اتصال مباشر مع حفتر، في إطار سعي الأول لتحصيل دعم متنوع، يجعله يبرز قبيل الانتخابات، في صورة رجل الاجماع. أما المؤيدون لحكومة الحل الثالث (لا الدبيبة ولا باشاغا) ففي مقدمهم عقيلة صالح، على أن تُسند رئاسة الحكومة المصغرة إلى عضو المجلس الرئاسي عبد الله اللافي. ويتردد أن عقيلة صالح لم يستلطف عقد صفقة بين اللواء المتقاعد حفتر ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة برعاية إماراتية. ومن الواضح أن المحور الجديد حفتر/الدبيبة يندرج في إطار التغييرات الإقليمية، التي حملها إحياءُ التفاهمات السابقة بين الإمارات وتركيا. ويمكن القول إن التحالف الجديد بين الرجلين يشكل إحدى ثمار زيارة رئيس دولة الإمارات (ولي العهد آنذاك) محمد بن زايد لتركيا، وحواراته مع الرئيس التركي اردوغان.
ومن الطبيعي أن عقيلة صالح لا يستلطف هذه الاستدارة لأنه كان يحظى بدعم إماراتي، بل وكان من المترشحين لتولي منصب رئاسة الدولة في قائمة ضمت أيضا اسم باشاغا، في ملتقى الحوار الليبي بجنيف. وأفضى تصويت الحضور في الملتقى لتولي الدبيبة رئاسة الحكومة ومحمد المنفي رئاسة المجلس الرئاسي وذلك في شباط/فبراير 2021. ومن الداعمين للحل السياسي أيضا قيادات الجيش في المعسكرين، لأنهم باتوا يرفضون اندلاع حرب أهلية رابعة وسفك دماء الليبيين مجددا. ولا ريب في أن اجتماعات اللجنة العسكرية 5+5 لعبت دورا مهما في التقريب بين قيادات المنطقتين الشرقية والغربية، التي أصبحت تؤكد على تشبثها بدورها الرئيس، المتمثل في الدفاع عن الوطن، وليس قمع الشعب. ولعبت الاحتجاجات الصاخبة في الساحة الخضراء (أو ساحة الثورة) ضد السلطات في الشرق والغرب على السواء، دورا مهما في جعل الخصوم يُفكرون مليا قبل اللجوء للقوة والاندفاع نحو قتال بعضهم البعض.
السيناريو الأسود
مع ذلك يُرجح مراقبون غير متفائلين تفجر الأوضاع من جديد وإخفاق المساعي الداعية إلى حل سياسي من خلال حكومة ثالثة. وهم يعتمدون في رؤيتهم المتشائمة على عدة وقائع ومؤشرات سلبية، من بينها التصريحات الحربية، التي تُطلق من هنا وهناك، مليئة بالتهديد والوعيد، وتدفق السلاح المُهرب نحو ليبيا من مصادر مختلفة، وغياب الأمم المتحدة من مسرح الأحداث، بعد استقالة ستيفاني وليامز، مطلع الشهر الجاري، وعجز مجلس الأمن عن التوافق على شخصية تحل محل الموفد الأممي يان كوبيش، المستقيل منذ تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وبالرغم من تداول اسم السياسي والأكاديمي السينغالي الدكتور عبد الله باتيلي بوصفه المرشح الذي سيصوت له أعضاء مجلس الأمن، في جلسة يعقدونها غدا الاثنين، فإن المتشائمين يُقللون من فرص نجاح أي موفد أممي جديد، بعد استفحال الصراعات بين الفرقاء الليبيين، بامتداداتها الخارجية، التي لم تعد تخفى على أحد.