العمران والسياسة: منظور عمراني لتفسير التخلف هو كتاب جديد للصديق الدكتور مأمون فندي، أرسله لي من لندن وقرأته في يومين لأنه كتاب غير تقليدي ويطرح أسئلة جديدة في مواضيع قديمة بشكل جديد ولغة سهلة وعميقة عن العمران والسياسة، وأيضا يشارك القاريء بإضاءات عن سيرته العابرة والمركبة بداية من قريته كوم الضبع مركز نقاده من محافظة قتا في الصعيد الجواني، إلى أسيوط والقاهرة ومنها إلى الدراسات العليا في الولايات المتحدة، ونهاية بزيارة أوروبا والعيش والكتابة من لندن؛ حيث يعمل الآن مديرا لبرنامج الشرق الأوسط وأمن الخليج في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ناهيك عن كتابة مقال شهري في صحيفة الشرق الأوسط السعودية ذائعة الانتشار.
يبدأ الكتاب بإهداء لابن أخته أحمد الذي توفي شابا وهو إهداء ليس عابرا لآن المؤلف لم يتخل عن أصوله الصعيدية والأسرية رغم ترحاله وحياته في المهجر بل إنه لايشعر بالرهبة من المركز والمدن الكبيرة، أي أنه لايعاني من عقدة الخواجة مثل العديد من الشباب العربي عندما يسافرون للعواصم والجامعات الغربية وتبهرهم الحداثة الغربية. وهذا واضح في صفحات الكتاب رغم تعدد المواضيع والتطبيقات.
عنوان الكتاب مثير للانتباه: العمارة والسياسة والتخلف.. منظور عمراني لتقسير التخلف. فالعمران ومايطرأ فيه من تغيرات عبر السنين هو تعبير وتجليات لتغيرات اجتماعية وثقافية وسياسية أعمق. والعمران صورة رمزية وكتابات وتأويل مجسم لجوهر المجتمع. لهذا يقول د. فندي: “أتبنى منظورا عمرانيا لتفسير ماجرى للمجتمع المصري في خلال النصف الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الجديد” ص 11. بعبارة أخرى يتبنى الكاتب منهجا يكون فيه العمران هو المفهوم الذي يدخل منه القايء إلى كتابه.
ولكن فهم العمران وتخطيط المدن يقرأ من زوايا منهجية متعددة تشمل العمارة والجغرفيا والسياسة والأنثربولوجيا ناهيك عن تداخل الديني والمقدس الرمزي بالسياسي والاجتماعي. ويقول إن فكرة الكتاب جاءت بعد تجربة حياته في الغرب أوروبا وأمريكا على وجه الخصوص، وانطباعاته الشخصية على جوانب مخفية ومظلمة في الحياة المصرية المعاصرة من ريف مصر إلى مدنها. ويقول إن معظم الدراسات عن المجتمع لاتشبه حياته وجيله، ولايمكن فهم تاريخ وثقافة المجتمع وسياسته خارج سياق العمارة وتخطيط المدن وعلاقتها بالإنسانيات والأنثربولوجيا. والتركيز هنا هو على علاقة الإنسان بالشارع والمباني والمدينة وانعكاس ذلك على رؤيته لنفسه والعالم.
هنا نجد نقدا مزدوجا للدراسات التي تركز على القاهرة “مصر” وتهمل الأطراف مثل الصعيد وبالذات الصعيد الجواني ولكن أيضا قصور الدراسات الاجتماعية والسياسية الغربية والعربية الموغلة في التخصص. ناهيك على أهمية التراث الشفاهي والأسطوري الرمزي وتداخل الديني مع السياسي في رموزالعمارة وتخطيط المدن وتفكيك هذه الرموز لفهم معانيها عن الهوية المتعددة والمركبة الآن.
يقول د. فندي إن فكرة العمارة والرموز الأنثربولوجية بدأت في عام 1978عندما بدأ رحلته الأولى من غرب الأقصر وقريته كوم الضبع بالقطار إلى القاهرة. وهذه الرحلة يراها ذات أبعاد رمزية وفلسفية. “لايفوت المرء المسافر بالقطار من الأقصر متجها نحو الشمال ونحو صرة الحكم في القاهرة أن الديني والدنيوي يمثلان خطين متوازيين لايلتقيان إلا عند ملامستهما محيط دائرة المركز في القاهرة” ص41
ويضيف في صفحة 52 ملاحظة ثانية تعبر عن الفكرة والتفسير الأساسي للكتاب “الللافت للنظر حين ركوب القطار من الأقصر في اتجاه القاهرة هو ازدياد أهمية المحافظة كلما اتجهت شمالا. ومع زيادة أهمية المحافظة تزداد أهمية الولي. بمعنى إن الأقصر أصغر من قنا وإن مقام سيدي عبدالرحيمم القناوي في قنا أكثر أهمية من مقام سيدي أبوالحجاج في الأقصر وهكذا حتى تصل القاهرة لضريح سيدنا الحسين”.
د. فندي يقدم هذه الرؤية الجديدة لتداخل العمارة بالأنثربولوجيا والسياسة ويعتمد على أفكار العلامة ابن خلدون والمؤرخ المعماري المصري الراحل حسن فتحي ولكن يضيف تطبيقات جديدة على فهم تركيبة المجتمع وعلاقته بالدولة الحديثة من منظور مقارن وبالذات رؤية الأطراف المهمشة والمنسية للمركز والدولة. ويخلص الكتاب إلى نتائج وتطبيقات جديرة بالاهتمام والتفكير لأنها جديدة وغير معتادة في دراسات مصر المعاصرة سواء باللغة العربية أو في الدراسات الإنجلوأمريكية. مثلا يقول د.فندي بأن هناك تداخل مابين الديني المقدس والسياسي وإن التقويم مثلا ثلاثي فرعوني وهجري وميلادي، وإن اللباس يعكس تعددية الهوية المصرية حيث اللباس الصعيدي الفلاحي الجلباب والعمامة، بجانب الطربوش (العثماني) واللباس الإفرنجي لفئة الأفندية. وكيف أن اللباس الحديث هولباس العمل الرسمي الحكومي أما في البيت فهو اللباس المصري التقليدي. نقرأ في ص 160 “حدود الدولة زمانية، ينتمي الصعيدي للدولة ملبسا لمدة سبع ساعات في اليوم، ومابعدها فهو عالم آخر بدوائر قبلية ومناطقية” وفي إشارة أخرى عن علاقة المصري بالحداثة يقول “السائح يأتي لعالمنا كي يستمتع بالقديم ونذهب لعالمه كي نسنتمتع بالحديث” أي نحن جزء من العالم الآخر والعكس. وهذا ليس صحيحا لفهم ذاتنا وحسب ولكن أيضا فإن الآخر الغربي لايمكن أن يفهم ذاته في عزلة عنا وعن العالم.