رشيد خشـــانة – السيناريو الأكثر تداولا حاليا هو تشكيل حكومة جديدة، يُستبعد منها كلٌ من الدبيبة والمشري وعقيلة صالح، وتقتصر مهمتها على الإعداد لانتخابات عامة، بعد الاتفاق على مرجعيتها الدستورية.
جميع التصريحات الموحية، مباشرة أو مداورة، بوجود اتفاق على إبعاد مرتزقة «فاغنر» من الأراضي الليبية، لا يمكن الوثوق في صحتها إلا متى وُضعت على المحك، وبدأ الانسحاب فعلا. ومن الواضح أن مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، مارس ضغطا قويا على اللواء المتقاعد خليفة حفتر، أثناء اجتماعهما أخيرا في بنغازي، من أجل التخلي عن مجموعة المرتزقة الروس. وتنظر واشنطن إلى المجموعة على أنها تشكيل أساسيٌ من القوات الروسية، سواء تلك التي تغزو أوكرانيا، أم المنتشرة في الخارج. ومن غير المستبعد أن تلجأ موسكو إلى التمويه والمناورة فتنقل قسما من مرتزقتها، مؤقتا، إلى أوكرانيا، أو النيجر عبر جنوب ليبيا، في انتظار عودتهم، في الوقت المناسب.
وسيضع رحيل فاغنر من عدمه التصريحات والالتزامات المُعلنة هنا وهناك على المحك، لأن خروج الروس سيتبعه انسحاب القوات الأجنبية الأخرى، وإن شكليا، في إطار تهيئة الأجواء للانتخابات الرئاسية والنيابية. وإذا ما اجتُرحت خطوة الانسحاب بجد، فإن خطوات أخرى ستتلوها، وفي مقدمها تجميع السلاح الثقيل وإبعاده عن المدن والتجمعات السكانية. لكن الخطوة الأعقد، وربما العصية على التحقيق، هي حلُ الأجسام شبه العسكرية، التي أخذت مكان الدولة، وصارت دويلات تتقاسم السيطرة على الأحياء والكانتونات وتفرض فيها القانون، قانونها. واستطرادا فإن أمراء الحرب سيُعطلون أية تسوية تؤدي إلى تحجيم نفوذهم.
وأمراء الحرب في ليبيا اليوم ليسوا فقط قادة الميليشيات، وإنما أيضا مسؤولون سياسيون يتصرفون مثلما يتصرف أمراء الحرب، ومن بينهم أعضاء في مجلسي النواب والأعلى للدولة، بالإضافة إلى اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يقود أكبر ميليشيا في المنطقة الشرقية. والأغرب من ذلك أن حكومة عبد الحميد الدبيبة تصرف رواتب للأجسام العسكرية التي تتولى حمايتها، وتؤمن في الوقت نفسه الرواتب للمجندين في جيش حفتر، شهريا. وأبسط دليل على ذلك أن هذا الأخير رفض تقديم معلومات عن المستفيدين من التحويلات المالية الشهرية إلى المنطقة الشرقية. ولو كُشف الغطاء عن مآلات التحويلات الكبيرة لظهرت في الصورة الأسماء المخفية، بما فيها مرتزقة «فاغنر».
مطلبُ بيرنز
ويملك حفتر ورقة قوية للضغط على الحكومة في طرابلس، إذا ما تقاعست أو تأخرت في تحويل كل تلك الرواتب، إذ سرعان ما يدفع بقواته إلى الموانئ والحقول النفطية، لاحتلالها ووقف تصدير النفط والغاز، جزئيا أو كليا، ما يُضطر الحكومة في طرابلس للإذعان. من هذه الزاوية نُدرك لماذا ركز وليام بيرنز، بلهجة صارمة، أثناء اجتماعه مع حفتر في قاعدة الرجمة (شرق) وقبل ذلك مع عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، على هذه المسألة لأن استمرار تدفق النفط والغاز على حلفاء واشنطن في أوروبا الغربية أمرٌ حيويٌ وحاجة أمنية، وسط اضطراب صادرات النفط والغاز الروسية.
ومن المؤكد أن مصلحة واشنطن تكمن في ألا يؤدي انهيار العملية السياسية في ليبيا، إلى اندلاع حرب جديدة، تكون «فاغنر» طرفا فاعلا فيها، وأن يستمر تدفق النفط والغاز الليبيين كي لا تتعمق أزمة الطاقة في أوروبا، في ظل تراجع إمدادات الطاقة الروسية، خاصة بعد قرار تسقيف أسعارها.
وتعتقد مصادر أمريكية أن مجموعة «فاغنر» احتفظت بـ300 روسي و 700 سوري في شرق ليبيا، بما في ذلك حول المنشآت النفطية وقاعدة «الخادم» الجوية التابعة لحفتر. أما تركيا فأقامت قواعدها في غرب البلاد. وأكد مدير وكالة المخابرات المركزية بيرنز، في زيارة لجامعة جورج تاون بواشنطن، أن إدارة الرئيس جوزيف بايدن تعمل بجد على مواجهة «فاغنر لأنها تشكل تهديدا للأفارقة، في جميع أنحاء القارة» على ما قال. وبعد زيارة بيرنز إلى ليبيا صنفت وزارة الخزانة الأمريكية مجموعة «فاغنر» بوصفها «منظمة إجرامية عابرة للحدود».
وكان اللواء حفتر جلب المرتزقة الروس إلى ليبيا، في العام 2018 للمساعدة في الهجوم على طرابلس. وفي أعقاب هزيمته وسحب قواته إلى المنطقة الشرقية، وتشكيل حكومة موحدة في العام 2021 ابتعدت «فاغنر» وحلفاؤها السوريون عن الأضواء، لكي تعود إليها مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، والدور المتزايد الذي لعبته في ساحة المعركة. وفي هذا السياق تُعتبر زيارة بيرنز لليبيا جزءا من حملة متجددة تقودها إدارة الرئيس بايدن ضد «فاغنر» بعدما لعبت هذه الأخيرة دورا متزايدا في حرب أوكرانيا، بالتوازي مع توسيع نفوذها إلى مناطق أخرى من أفريقيا. واللافت أن مفوض الأمن والعلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بورال أكد أن عناصر «فاغنر» يتولون تأمين الحراسة الشخصية لعدة رؤساء ومسؤولين سامين في دول أفريقية لم يُسمها.
أكثر من ذلك كشفت وثيقة رسمية، تسربت على وجه الخطأ! من أحد أجهزة الأمن في مالي، أواخر العام الماضي، عن أن «الوكالة الوطنية لأمن الدولة» التي يُديرها الرئيس المالي أسيمي غويتا بنفسه، مساهمٌ في تمويل قوات «فاغنر». وأظهرت الوثيقة ارتفاعا جنونيا لاعتمادات الوكالة في الموازنة المقبلة، إذ قفزت من 3 ملايين يورو العام الماضي، إلى 180 مليون يورو مقررة لهذه السنة. لكن يجب أخذ هذه الإفادات من مالي بشيء من التحفظ، لأن فرنسا ما زالت تقف على خط الصراع مع النظام العسكري هناك، وهي تؤلب عليه جيرانه. وأفيد أن عناصر «فاغنر» باشروا، بُعيد وصولهم إلى مالي في 2021 التفتيش عن مناجم الذهب، الذي تُعتبر مالي أحد منتجيه الكبار في أفريقيا. غير أنهم لم يُبرموا، رسميا، أية عقود للاستخراج مع السلطات المالية، على عكس تعامل أفريقيا الوسطى والسودان معهم، اللذين منحاهم امتيازات للتفتيش عن الذهب واليورانيوم ومعادن ثمينة أخرى.
وتخضع المجموعة ومؤسسها يفغيني بريكوجين المُلقب بـ«طباخ بوتين» لعقوبات أمريكية منذ العام 2017. وأعلنت إدارة بايدن في كانون الأول/ديسمبر 2022 عن قيود جديدة، لتعطيل وصول التكنولوجيا إلى عناصر المجموعة. وتُؤلف عناصر «فاغنر» في ليبيا جيشا متكامل المقومات، إذ أنهم مجهزون بمركبات مدرعة وأنظمة دفاع جوي وطائرات مقاتلة ومعدات أخرى قدمتها روسيا، ودفعت الإمارات ثمنها.
ويُرجح الصحافي الفرنسي مورغان لوكام، في مقال في جريدة «لوموند» أن مجموعة «فاغنر» خاسرة في مالي، واستطرادا يتساءل عما إذا كانت تمول نشاطاتها هناك مما تحصدُه من عملياتها في ليبيا والسودان وأفريقيا الوسطى؟ لذلك فهي تحافظ على وجودها في مالي، بالرغم من الخسارة، لما يرتديه هذا البلد الشاسع من أهمية استراتيجية، لاسيما لباريس، ضمن قوس نفوذها في الساحل والصحراء. وحسب وكالة الأنباء الأمريكية «أسيوشيدت برس» تتعاون إدارة بايدن منذ شهور، مع القوى الإقليمية، وخاصة مصر والإمارات، للضغط على القادة العسكريين في السودان وليبيا لإنهاء علاقاتهم مع الجماعة. ونتيجة لهذا المُتغير المهم، أعلنت واشنطن، في إطار القمة الأمريكية الأفريقية، التي عُقدت قبل شهر من زيارة بيرنز إلى ليبيا، تخصيص 55 مليار دولار لأفريقيا، أملا بتقويض النفوذ الروسي والصيني في القارة.
مفوضية الانتخابات جاهزة
في هذه الأجواء كثرت التصريحات والتصريحات المضادة في ليبيا حول الانتخابات، لكن لا أحد من المُصرحين صادقٌ في ما يقول. والأرجح أن الانتخابات لن تتم في العام الجاري، لأن الأوضاع الداخلية والإقليمية غير جاهزة لانتخابات بمثل هذه الحساسية والخطورة. والسيناريو الأكثر تداولا حاليا هو تشكيل حكومة جديدة، يُستبعد منها كلٌ من الدبيبة والمشري وعقيلة صالح، وتقتصر مهمتها على الإعداد لانتخابات عامة، بعد الاتفاق على مرجعيتها الدستورية. ويجوز القول إن الإشراف الإداري والفني على العملية الانتخابية مضمونان بواسطة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، التي يؤكد رئيسها عماد السايح لزُواره أنها جاهزة بنسبة 98 في المئة، للقيام بدورها في الاستحقاق الانتخابي. ويذهب الخبير الألماني بالشؤون الليبية ولفرام لاخر، إلى أن غالبية المراقبين يشُكُون بإجراء الانتخابات في وقت قريب.
وعزا ذلك إلى «العقبات الهائلة التي تواجه تلك العملية، ومن بينها تمسك الأطراف الرئيسة بمواقفها، سواء أكانت من الأطراف المحلية أم من القوى الأجنبية، وعدم رغبتها بالمخاطرة في عملية غير مضمونة». إلا أن لاخر يستبعد في الوقت نفسه استئناف الحرب الأهلية بين شرق وغرب، امتثالا لقرار دولي بإنهاء الصراع المسلح في ليبيا، لتداعياته الخطرة على الأمن والاستقرار في الاقليم بأسره.
ومع ابتعاد فرص الحل السياسي تكثر الاجتماعات العقيمة والمناقشات البيزنطية، أسوة بحوارات خالد المشري وعقيلة صالح، التي لم تكن غير كسب للوقت لا أكثر. ويتهم كثيرون المشري وصالح بالعمل على إطالة بقائهما في منصبيهما، والاستفادة من الامتيازات الكبيرة التي يتمتعان بها، لأنهما لو شاركا في انتخابات جديدة، فالأرجح أنهما سيفشلان في العودة إلى مقعديهما. وأتت التصريحات الأخيرة لعضو المجلس الرئاسي موسى الكوني، لتؤكد أن النخبة الحاكمة هي التي تُعطل مسار الحل السياسي، إذ أن حكومة الدبيبة قادرة، برأيه، على إجراء الانتخابات، بوصفها الحكومة المعترف بها دوليا. غير أن الأطراف الداخلية والخارجية متوافقة على عدم إجرائها «لأن ذلك يصب في مصلحتهم جميعا» على ما قال.
وبالمقابل لوحظ بروز نخبة ليبية ناشئة، تعمل على خلق واقع جديد على الأرض، وتنبذ السياسيين وتتوعدهم بالمحاسبة. غير أن هذه النخبة الشابة ما زالت بعيدة عن سلطة القرار، وهي تحتاج إلى توحيد صفوفها لإسماع صوتها، الذي ما زال خافتا ومتقطعا، خصوصا بعد الإجراءات التي اتخذتها حكومة الدبيبة لإحكام قبضتها على وسائل الإعلام. وربما تكون الاحتفالات بالذكرى الثانية عشرة لانتفاضة 17 شباط /فبراير2011 مناسبة لبروزها، بشكل منظم، في المشهد الليبي.