رشيد خشـــانة – يتزايد الطلب على الأسلحة النارية والذخيرة، في ليبيا، مع تزايد أعداد الجماعات شبه العسكرية، ما يمنح المزيد من الفرص التجارية لمهربي الأسلحة إلى دول الساحل والصحراء، انطلاقا من ليبيا.
اختزل نائب رئيسة الوزراء وزير الخارجية والتعاون الدولي الإيطالي أنطونيو تاياني المخارج السياسية من الأزمة الليبية، بأن تجلس تركيا ومصر على مائدة واحدة، لأن لدى الأولى نفوذا على طرابلس ولدى الثانية نفوذا على برقة (الشرق) مُضيفا جملة مهمة بقوله «نحتاج أيضًا إلى إشراك قطر والإمارات». ولا ريب في أن المعارك التي خيضت في ليبيا، على مدى اثني عشر عاما، يُغذيها الصراع بين القوى الإقليمية والدولية على ثروات البلد ومناطق النفوذ.
ومن الواضح أن استمرار تدفق الغاز الليبي على جنوب إيطاليا في مقدم أولويات روما، في الحاضر والمستقبل. وهذا ما يُفسر تصريحات تاياني في طرابلس، عندما أكد أن على إيطاليا حماية مصالحها، مُستدركا «ولكن أيضا أن تلعب دورا لصالح الاستقرار والنمو». وكانت إيطاليا توصلت إلى عقود مهمة مع ليبيا لتطوير أعمال التفتيش عن الغاز، بين مجموعة «إيني» و«المؤسسة الوطنية للنفط» في 28 الشهر الماضي.
ويراوح حجم الغاز المصدر من ليبيا إلى إيطاليا سنويا، بما بين 12 و14 مليار قدم مكعب، حسب رئيس مجموعة «إيني» كلاوديو ديسكالزي. غير أن تدفقات الغاز تتسم بالتذبذب. كما أنّ حجم الصادرات تراجع جراء عدم استقرار الوضع الأمني والسياسي وارتفاع الطلب الداخلي الليبي على الغاز.
في هذا السياق تعهد الإيطاليون بالعمل على جعل الفرقاء الليبيين يتحاورون مع بعضهم البعض. وأكد رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة أن إيطاليا «تعمل على استقرار ليبيا، من خلال جهودها مع دول الجوار». ويستمد هذا الموقف أهميته من التطابق بين الموقفين الإيطالي والأمريكي من مجريات الأزمة الليبية، فقد عهدت واشنطن بالملف الليبي إلى روما، بعد انسحابها المؤقت من ليبيا، في أعقاب مقتل سفيرها في مقر القنصلية الأمريكية ببنغازي العام 2012 وقبل عودتها إليها تدريجا اعتبارا من 2017.
وغير بعيد عن هذا الموقف أتى تصريح عضو المجلس الرئاسي الليبي موسى الكوني، الذي عبر عن «سعادة» المجلس بأن تقود أمريكا المسار السياسي في ليبيا، «لأنها الدولة الوحيدة التي ينصاع لها الجميع» طبقا لما قال، مُستدلا بزيارة مدير المخابرات المركزية الأمريكية، وليام بيرنز الأخيرة، إلى كل من طرابلس وبنغازي، مع تأكيد الكوني أن أمريكا لن تتدخل عسكريا في ليبيا، تحت أي ظرف. وعزا ذلك إلى كونها «تحظى بنفوذ واسع تعتمد عليه في إدارتها للأزمات».
كتائب بدل الجيش
ويُعتبر تدفق الأسلحة المتوسطة والثقيلة على ليبيا أحد العوائق الكبرى في طريق الحل السياسي، إذ أن تخلي الزعيم الراحل معمر القذافي عن الجيش الليبي، بعد حربه في تشاد، والاستعاضة عنه بكتائب يقودها أبناؤه، أفسحا المجال لتكوُن جماعات مسلحة تفرض سلطتها على جزر أمنية متنافسة في مختلف المناطق والمدن.
وحسب خبراء الأمم المتحدة، في تقرير أصدره أخيرا مكتبها المعني بمكافحة المخدرات والجريمة، يتزايد الطلب على الأسلحة النارية والذخيرة، في ليبيا، مع تزايد أعداد الجماعات شبه العسكرية، ما يمنح المزيد من الفرص التجارية لمهربي الأسلحة إلى دول الساحل والصحراء، انطلاقا من ليبيا. وتكون وجهة تلك الأسلحة، غالبا، بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد.
من هنا تأتي مُطالبة «مجموعة الأزمات الدولية» للدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي بدعم خيار إجراء الانتخابات مباشرة، أي من دون الذهاب إلى تشكيل حكومة أخرى، معتبرة أن هذا الخيار يحمل أملا أكبر لحل الأزمة. ومن ضمن التوصيات الأخرى، التي اتخذها الاتحاد الأفريقي، قبل عقد قمته، التي افتُتحت أمس في أديس أبيبا، ضرورة تجاوز الانقسام بين الدول الغربية، التي تريد إجراء الانتخابات مباشرة، وبين مصر التي تفضل تشكيل حكومة جديدة موالية لها، أكثر من الحكومة الحالية. وظهر ذلك مثلا في إصرار الخارجية المصرية على مقاطعة وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة نجلاء المنقوش.
مهمة وحيدة للدبيبة
من المهم الإشارة هنا إلى أن أمريكا من أشد المطالبين بالمرور مباشرة إلى الانتخابات، فقد خاطب موفدُها وليام بيرنز رئيس حكومة الوحدة الدبيبة بقوله «أمامك مهمة وحيدة هي إجراء الانتخابات ولا شيء غيرها» حسب ما يُتداول في طرابلس. كما طالبت «مجموعة الأزمات» بدعم المبعوث الأممي عبد الله باثيلي وتشجيعه على وضع خريطة طريق لحل الأزمة، بدلا من إطلاق مبادرة جديدة. وفي تطور لافت حققت العلاقات الليبية الإماراتية انعطافا كبيرا بعد الزيارة التي أداها رئيس حكومة الوحدة الدبيبة لأبو ظبي، الأربعاء الماضي، مرفوقا بوفد رفيع المستوى، بعدما كانت الإمارات الحلقة الأقوى في تحالف استهدف حكومة الوفاق الوطني السابقة في طرابلس، برئاسة فائز السراج. وضم الحلف كلا من مصر وروسيا والإمارات، بالإضافة لفرنسا. وما من شك بأن زيارة الدبيبة للإمارات كانت علامة على وجود مسعى إماراتي للتقريب بين الإخوة الأعداء في الصراع الليبي.
أكثر من ذلك حملت الزيارة مؤشرات إلى نقلة في العلاقات الثنائية، بعدما كانت المُمول الرئيس لقوات حفتر، التي هاجمت طرابلس في الرابع من أبريل/نيسان العام 2019. وكان واضحا من كلام الدبيبة في أبو ظبي، حرص طرابلس على فتح آفاق التعاون الاقتصادي بين البلدين، في المجالات الاقتصادية والاستثمارية المختلفة. وأكد الدبيبة بأنه اتفق مع رئيس الإمارات محمد بن زايد على تسيير رحلات جوية مباشرة بين البلدين، وفتح التأشيرات للمواطنين الليبيين وعودة السفارة الإماراتية إلى العمل من طرابلس. وشدد سفير الإمارات لدى ليبيا، محمد الشامسي، الذي قدم أوراق اعتماده أخيرا إلى رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، على تفعيل اللجنة العليا المشتركة بين البلدين، ومنح الليبيين تأشيرات الدخول لدولة الإمارات إلكترونيا، من دون الحاجة إلى السفر لدولة ثالثة للحصول عليها.
تفكك الحلف الرباعي؟
وشكل استئناف العلاقات الليبية الإماراتية واحدا من المُتغيرات الاستراتيجية البارزة في المنطقة، لأنه أمارة على تفكك الحلف الرباعي المصري الروسي الإماراتي الفرنسي، وهو أيضا تهميشٌ للواء حفتر، الذي كان يصفه الإعلام الإماراتي بـ«المشير خليفة حفتر القائد العام للقوات المسلحة الليبية». ويتزامن هذا الانعطاف مع احتفال الليبيين بالذكرى الثانية عشر لانتفاضة 2011 التي أطاحت بنظام الزعيم الراحل معمر القذافي. وقد احتضنت الإمارات عددا مهما من رجال النظام السابق وساعدتهم سياسيا وماليا. وهذا ما يُفسر دفاعها على إشراك بعض رموز النظام السابق في الحكم، بتعلة أن مؤيدي شباط/فبراير، أو من كانوا يُنعتون بـ«الثوار» ليست لديهم الخبرة الكافية لإدارة شؤون الدولة.
والأرجح أن كسر الجليد بين طرابلس وأبو ظبي تم بناء على عدد من التسويات والمقايضات بين العاصمتين، التي انطلقت منذ مدة. وظهرت بعض ملامح التسويات من خلال موافقة الدبيبة على إقالة الرئيس السابق للمؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله وتسمية فرحات بن قدارة في مكانه، وهو الاسم الذي رشحه خليفة حفتر ووافقت عليه الإمارات. كما تشمل المقايضة أيضا إجراء تعديل وزاري في حكومة الدبيبة، بالاتفاق مع خليفة حفتر، وتحت رعاية الإمارات، يُرجح أن يُمنح بموجبها معسكر حفتر إمكانية تعيين وزراء المالية والتخطيط والدفاع، وربما الخارجية، إلى جانب نائبي رئيس الوزراء عن الجنوب والشرق.
مُقايضات
نظريا ستُساهم هذه المقايضات في إنضاج الشروط اللازمة لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لكن في الواقع هناك عراقيل متنوعة مازالت تُعطل المسار، من بينها أن الموقف الدولي مازال غير موحد في عدة قضايا، من بينها طبيعة الانتخابات، هل تكون نيابية فقط، لإحداث مجلس تشريعي ينتخب بدوره رئيسا للدولة، أم تكون رئاسية لاختيار رئيس يسمي رئيسا للحكومة؟ وهنا يرى عضو المجلس الرئاسي موسى الكوني أن ليبيا بحاجة إلى رئيس منتخب وليس إلى برلمان أو مجلس رئاسي. ويعتقد الكوني، أن حكومة الوحدة الوطنية لديها مهمة مركزية هي تأمين الانتخابات وحمايتها، «لكن الجميع يعرقل إجراء الانتخابات» وفق قوله. ورجح الكوني احتمال عدم فوز أي من الأسماء الحاضرة في المشهد الحالي في الانتخابات.
والأرجح أن المبعوث الأممي عبد الله باثيلي يحمل في حقيبته هذه الخيارات في إطار سلسلة المشاوارت مع الأطراف المحلية والدولية، قبيل إحاطته أمام مجلس الأمن المقررة للسابع والعشرين من الشهر الجاري. وعلى سبيل المثال يتمسك الألمان بالجمع بين الانتخابات النيابية والرئاسية، طبقا لما قالته وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك لباثيلي، كما يُصر الألمان على إجراء الانتخابات قبل نهاية العام الجاري، وليس في السنة المقبلة مثلما يقترح البعض.
مدرعات جديدة
أكثر من ذلك، تستعد الحكومة الليبية لتسلم مركبات مدرعة من الإمارات، إذ قدم رئيسها الدبيبة (وهو في الوقت نفسه وزير الدفاع) خطابا إلى لجنة الجزاءات المفروضة على ليبيا، التابعة للأمم المتحدة، طالبا منها السماح باستلام 45 مركبة مدرعة من الإمارات، بالرغم من حظر الأسلحة المفروض على ليبيا. لكن الخبراء المتابعين للملف الليبي يؤكدون أن طموحات حفتر أكثر مما يمكن للدبيبة أن يقدمه. وهم يرون أن حجم الاتفاقات لا يحقق حتى الآن تسوية، إذ أن حفتر، الذي يريد الاستحواذ على كل شيء، مازال يريد المزيد، أكثر بكثير مما يمكن للدبيبة أن يعطيه، مخافة استعداء الجماعات المسلحة في غرب ليبيا، التي تدافع عنه وعن أعضاء حكومته. كما يواصل حفتر استخدام وجود حكومة باشاغا للضغط على الدبيبة، وفتح آليات تمويل موازية، من خلال إجبار البنوك، الموجودة في شرق ليبيا، على مراكمة الديون. والنتيجة الطبيعية لهذا التكتيك هي ترسيخ الانقسام المؤسسي بين شرق ليبيا وغربها.