رشيد خشــانة – في مقابل لعبة كسب الوقت لتأجيل الانتخابات، إلى أبعد تاريخ ممكن، يتطلع الشارع إليها بقوة، مثلما يُبرهن على ذلك إقدام 2.8 مليون مواطن على التسجيل في اللوائح الانتخابية.
ما فتئ أركان النظام السابق في ليبيا يُعززون مواقعهم ويمسكون بأطراف اللعبة السياسية، ما جعلهم طرفا لا يمكن الالتفاف عليه، في أي حل سياسي للأزمة. ومنذ تشكيل «المجلس الوطني الانتقالي» (برلمان انتقالي غير منتخب) في 2011 استأثر رجال القذافي بأبرز الحقائب، بما فيها رئاسة المجلس، التي آلت إلى وزير العدل السابق مصطفى عبد الجليل، ورئاسة المكتب التنفيذي (حكومة مؤقتة) التي عُهد بها إلى وزير التخطيط في الحكومات السابقة الراحل محمود جبريل.
ولئن غيب الموت وزراء سابقين وشخصيات نافذة مثل أبوزيد دوردة رئيس المخابرات الخارجية رئيس الوزراء سابقا وأبو بكر يونس جابر وزير الدفاع والخويلدي الحميدي قائد ميليشيات النظام وشكري غانم وزير النفط الأسبق، ما زال آخرون يشاركون في اللعبة مباشرة أو مُداورة، من أمثال البغدادي المحمودي رئيس الوزراء الذي أطاحت به انتفاضة 2011 وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب الحالي، بالرغم من أنه لم يحصد سوى 600 صوت في الانتخابات النيابية.
ويتحدث ليبيون عن صفقات سياسية، بين الدبيبة وقيادات سابقة، بدعوى تحقيق المصالحة الوطنية، مع عبد الله السنوسي صهر القذافي ومدير جهاز مخابراته والساعدي القذافي وعبد الله منصور ومنصور ضو. وكانت صدرت على هؤلاء أحكام قضائية، بعضُها بالإعدام. ولم يُخف رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي وساطته لإطلاق عبدالله منصور، أحد القيادات الأمنية والإعلامية في النظام السابق، مُتعللا بسعي المجلس للمساهمة في مشروع المصالحة الوطنية، على ما قال.
أكثر من ذلك، يُعتبر رئيس الحكومة الراهنة عبد الحميد الدبيبة (64 سنة) وقريبه علي الدبيبة، أحد أركان نظام القذافي، الذي أطلق يديهما لإدارة محافظ الاستثمارات الليبية في الخارج. ويخشى الدبيبة من منافس قوي ممثل بسيف الإسلام، الابن الثاني لمعمر القذافي، والذي يحظى بدعم واسع من رؤساء القبائل الليبية. ومع أن سيف الإسلام لا يتحدث في وسائل الإعلام ويعيش متواريا عن الأنظار، لم يتوان عن تقديم ترشُحه للرئاسة، لدى فتح باب الترشُحات العام الماضي. وتم تسجيل الترشح في مدينة سبها (جنوب) حيث لا توجد مؤسسات الدولة، لأن تقديمها في العاصمة طرابلس كان سيجعله عُرضة للاعتقال أو الاختطاف، تنفيذا لأحكام قضائية محلية ودولية كانت قد صدرت في حقه، تصل إلى الإعدام.
الرجال الثلاثة ورابعهم
كما أن القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر يشكل منافسا قويا للرجال الثلاثة (سيف الإسلام وعبد الحميد الدبيبة وعقيلة صالح) بالنظر إلى سيطرته على الحقول وبعض الموانئ النفطية، فضلا عن بسط نفوذه العسكري والأمني على الشرق والجنوب. ولا أحد يستطيع تغيير هذه الخريطة في الوقت الراهن، بل الجميع مُستفيد من استمرار الأمر الواقع، ذلك أن مجلس النواب الذي انتُخب أعضاؤه في 2014 لعام واحد، مع إمكانية التمديد لعام ثان، متشبثٌ بالكراسي، رئيسا وأعضاء. وتصف الأكاديمية الليبية فيروز النعاس الجسمين، أي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، بأنهما «مغتصبان للسلطة ويسعيان إلى تدوير المناصب».
أما المجلس الرئاسي فلا حول له ولا قوة، لأنه منزوع الصلاحيات، وهو ما فتئ يردد على مسامع زواره أن «الانتخابات هي الحل على أن تكون القاعدة عادلة للجميع». وفي مقابل لعبة كسب الوقت لتأجيل الانتخابات، إلى أبعد تاريخ ممكن، يتطلع الشارع إليها بقوة، مثلما يُبرهن على ذلك إقدام 2.8 مليون مواطن على التسجيل في اللوائح الانتخابية، وهي ظاهرة لا نلمحها في دول الجوار، حيث تتدنى نسبة المسجلين، وتتضاءل الثقة بالمترشحين.
وتُعزى نسبة العزوف اللافتة في تونس على سبيل المثال (قرابة 90 في المئة) إلى إخفاق ثماني حكومات، في ثماني سنوات، في حل بعض المعضلات الاجتماعية والاقتصادية.
وللمرة الأولى يندلع صراع علني بين البعثة الأممية وركن من أركان الدولة الليبية، مُمثلا بمجلس النواب، تعليقا على إحاطة عبد الله باثيلي رئيس البعثة الأممية أمام مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي. وتحاشى رئيس مجلس النواب عقيلة صالح الرد مباشرة على إحاطة عبد الله باثيلي، غير أن ردهُ جاء باسم «رئاسة مجلس النواب» وأتى غاضبا ومتشنجا. وعلى الرغم من أن بيان عقيلة اعتبر أن الاحاطة «تضمنت مغالطات وتناقضات في شأن فشل مجلسي النواب والدولة في إقرار القاعدة الدستورية» من دون ذكر المغالطات والتناقضات.
سفينة نوح
أما باثيلي فكشف لأعضاء مجلس الأمن خطته، التي تعتمد على ثلاثة محاور، الأول يتمثل بتشكيل لجنة توجيهية رفيعة المستوى، تجمع ممثلي الأجسام السياسية وأهم الشخصيات المستقلة والقادة القبليين ومنظمات المجتمع المدني والأجهزة الأمنية والنساء والشباب. وأشار باثيلي إلى أن هذه اللجنة هي التي «ستتولى تيسير اعتماد الإطار القانوني وخريطة الطريق المحددة وفق جدول زمني، لإجراء الانتخابات قبل نهاية العام الحالي». وستوفّر اللجنة منصة لتعزيز توافق الآراء على المسائل ذات الصلة، مثل أمن الانتخابات واعتماد مدونة سلوك يتقيد بها كافة المترشحين.
تعديل مُثير للجدل
ويتعلق المحور الثاني من خريطة باثيلي بالتعديل الدستوري الثالث عشر، إذ أقر بأن هذا التعديل «يثير الجدل في أوساط السياسيين والمواطنين، ولا يعالج بعض المسائل الأساسية مثل معايير الترشح للرئاسة. كما لا ينص على خريطة طريق واضحة وجداول زمنية لإجراء الانتخابات في 2023». أما المحور الثالث، الذي لا يقلُ أهمية عن السابقين، فيتعلق باللجنة العسكرية المشتركة، التي ستتولى إطلاق حوار مع ممثلي المجموعات المسلحة، بغية مناقشة كيفية ضمان البيئة المناسبة لإجراء الانتخابات.
ويُشبه المحور الأول من الخطة المؤتمر الجامع الذي كان يُجهز له الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة، في مدينة غدامس (شمال غرب) في نيسان/أبريل 2019 بمشاركة ألف شخصية. وقد أفشله حفتر بهجومه على طرابلس العاصمة، في الرابع من ذلك الشهر. وإذا كان باثيلي يعتزم الانطلاق من النقطة التي توقف عندها سلفُهُ، فلأنه يُدرك أن الأجواء الدولية والإقليمية الراهنة أسقطت البدائل العسكرية، وهي لا يمكن أن تعطيه ضوءا أخضر لعملية عسكرية جديدة.
وتجاسر الموفد الأممي على طرح مسألة حساسة تتعلق بإدارة موارد الدولة، التي قال عنها «إنها ما زالت مصدر قلق كبير لكل الليبيين» مؤكدا «أهمية إنشاء آلية بقيادة ليبية، تجمع أصحاب المصلحة من مختلف أرجاء ليبيا للاتفاق على أولوية الإنفاق، وضمان إدارة الإيرادات بشكل شفاف ومتساو». وهذه مسألة تفتح على ظاهرة الفساد وغياب الشفافية في الانفاق، اللذين ترعرعا في ظل ثماني حكومات، تداولت على السلطة منذ 2011، ما جعل بعض الفئات من الليبيين، تتمنى عودة النظام السابق.
وتحوم حول رئيس الحكومة المؤقتة الدبيبة وأعضاء في حكومته شبهات فساد وتضارب مصالح وتحقيق منافع شخصية وتوظيف المال العمومي لخدمة مآرب سياسية ضيقة، لا علاقة لها بالصالح العام. وتجاهل الدبيبة، المسنود من عديد التشكيلات الأمنية والعسكرية شبه الميليشياوية، التي يقودها نافذون في الجزء الغربي من البلد.
عودة إلى «لوكربي»
وكثر الحديث عن اعتماد الدبيبة على أجهزة أمنية خاصة بعد اعتقال جهاز تابع له «أبو عجيلة» محمد مسعود خير المريمي، أحد ضباط المخابرات السابقين في عهد القذافي، وتسليمه لأمريكيين نقلوه إلى واشنطن، حيث مثل أمام محكمة اتحادية، وما زال يواجه تهمتين جنائيتين تتعلقان بحادثة «لوكربي» (1988).
وفي خطوة تبدو تشويشا على خطة المبعوث الأممي، دعا عقيلة صالح إلى تشكيل لجنة مؤلفة من 45 عضوا موزعين بين 15 من مجلس النواب و15 من المجلس الأعلى للدولة و15 من المستقلين وذوي الخبرة، وهم يختارون بدورهم «سلطة تنفيذية موحدة»، أي حكومة جديدة، تحت إشراف دولي. وكأنما ليبيا بحاجة اليوم إلى حكومة ثالثة تتنازع مع حكومتي الدبيبة وباشاغا على الشرعية، ويتمتع أصحابها برواتب وامتيازات تُرهق المالية العمومية، المُصابة أصلا بالعجز. أكثر من ذلك، كشف آخر تقرير لخبراء مجلس الأمن الدولي صدر الشهر الماضي، أن مجموعات المرتزقة الدارفوريين في ليبيا كانت تتلقى دعما شهريا يصل إلى 1.2 مليون دولار. وكانت تلك المجموعات المسلحة انخرطت في أعمال هجومية، إلى جانب الجيش الذي يقوده حفتر، والمدعوم من الإمارات فكافأها على جهودها.
وتحدثت تقارير فرنسية سابقة عن إحصاء أكثر من 15 ألف مرتزق سوداني يعملون في اليمن وليبيا، مؤكدة أن كلا من الإمارات وشركة «بلاك شيلد سيكيوريتي» متهمتان بخرق حظر الأسلحة، الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا بإرسال أسلحة ومرتزقة سودانيين. هكذا يبدو السلاح مصدرا دائما لتهديد الاستقرار والإبقاء على البلد مُقسما بين منطقة شرقية في قبضة خليفة حفتر، ومنطقة غربية تُديرها حكومات متوالية تستمد شرعيتها من الأمم المتحدة.
مع ذلك، فإن كثيرين داخل ليبيا وخارجها، موقنُون أن الليبيين سيبقون موحدين، وهو ما أكدته المستشرقة الإيطالية كلاوديا غازيني، من «مجموعة الأزمات الدولية» في أعقاب جولة طويلة على أقاليم ليبيا، قائلة «إذا كانت هناك من حقيقة أكدتها لي رحلتي، فهي المفارقة المتمثلة بأن جميع الليبيين الذين التقيتهم يعتبرون أنفسهم مُنتمين إلى بلد واحد، على الرغم من الانقسامات السياسية والقبلية». ويعتقد سياسيون ليبيون أن إطلاق مسار خاص للعدالة الانتقالية، يشمل إنصاف الضحايا ورد الاعتبار للمدافعين عن حقوق الانسان، أسوة بالمسار الذي اتُبع في أفريقيا الجنوبية، سيُعزز اللحمة بين مكونات المجتمع الليبي، ويُزيل كثيرا من الأحقاد، التي كانت وقودا للصراعات التي هزت البلد، على مدى أكثر من عشر سنوات.
من هنا نفهم التقرير الاستخباراتي الإيطالي الأخير الذي اعتبر أن الأطراف المحلية الفاعلة في ليبيا فقدت القدرة التامة على اتخاذ القرارات جراء الضغوط الخارجية التي تتعرض لها. وتحدث التقرير عن فشل الأطراف الليبية في اتخاذ خطوات مهمة لإعادة تشكيل السيناريو السياسي، مع انعدام إطار دستوري ينظم مسارا انتخابيا جديدا وموثوقا به، وهو ما يعني أن الأزمة مازالت مستمرة.