اتسمت العلاقات الليبية الأمريكية بطابع عدائي بين البلدين منذ السنوات الأولى لاستقلال الولايات المتحدة الأمريكية رغم بعد المسافة وعدم وجود أية بؤر للتنازع سواء جغرافية أو سياسية منذ القرن الثامن عشر الذي ظهرت فيه الولايات المتحدة الأمريكية كدولة صاعدة على المسرح الدولي بإمكانيات اقتصادية وعسكرية لا حدود لها بعد أن خرجت من حروب طاحنة داخلية وخارجية من أجل استقلالها فى (4.يوليو.1776م) .
المحطة الأولى
لم تخف القوة الصاعدة فى المشهد الدولي اهتمامها بالشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وبالأخص شواطئ دول المغرب والجزائر – وتونس وليبيا فلم تمض ثماني سنوات على استقلالها حتى اتخذ الكونغرس الأمريكي سنة 1784م قراراً بتكليف لجنة خاصة للمفاوضات من أجل عقد اتفاقات خاصة مع دول شمال إفريقيا تتكون من (بنجامين فرانكلين – جون آدمس – توماس جيفرسون) ((وقد أصبح جميعهم رؤساء للولايات المتحدة الأمريكية )) وتوصلت هذه اللجنة إلى اتفاق مع المغرب فى عام 1786م وفشلت فى ليبيا والجزائر رغم اقتراح (آدمس) زيادة الرسوم التى التزمت الولايات المتحدة الأمريكية بدفعها الى دول الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط ((إلا أن جيفرسون اقترح إنشاء قوة عسكرية بالمبالغ التى سيتم دفعها لحماية السفن الأمريكية فى البحر الأبيض المتوسط وفى سنة 1791م أقرت لجنة الكونغرس اقتراح جيفرسون الذى كان يشغل وزير خارجية آنذاك وصادقت على المقترح الذى تم تنفيذه سنة 1794م بإنشاء ست سفن حربية لاستعمالها ضد ليبيا والجزائر والتى اعتبرت فيما بعد أساس بناء الأسطول السادس الأمريكي لأن عدد سفنه ست سفن )) وفى 1787م اتفقت الولايات المتحدة مع تونس لدفع مبلغ 107 ألف دولار كرسم مقابل عدم التعرض للسفن الأمريكية فى البحر المتوسط وفى 4/نوفمبر/1796م تم التوصل إلى اتفاق مع ليبيا تدفع بموجبه الولايات المتحدة الأمريكية (56000) ألف دولار .
وبعد أن اكتمل بناء الأسطول الأمريكي نكثت الولايات المتحدة الأمريكية بوعودها فاعترضت دول شمال إفريقيا على هذا النكوص إلا أن الولايات المتحدة أصرت على عدم دفع الإتاوات المتفق عليها وفى 1801م أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على ليبيا وهو أول إعلان حرب تعلنه على دولة أجنبية بعد استقلالها عن بريطانيا .
وتنفيذا لهذا الإعلان أرسلت أربع سفن حربية إلى البحر الأبيض المتوسط بقيادة (الكومندار ريشارد وال) الذي كان أول قائد أسطول أمريكي في البحر الأبيض المتوسط الذي فشل فى هجومه على طرابلس وهو ما يعد أول فشل أمريكي فى المتوسط اضطر على أثره إلى التراجع إلى جبل طارق الذي اضطر لمغادرته بعد هجوم القوات المغربية والجزائرية واستبداله بالكومندار ريتشارد موريس الذى حاصر طرابلس فى 1802م. لكن القوات الجزائرية والمغربية البحرية تحركتاً ضده فاضطر إلى الانسحاب. ثم جدد حصاره لشواطئ طرابلس فى مايو 1803م وكذلك فى سبتمبر من العام نفسه رغم استبدال قيادة الأسطول بقيادة الكومندار (إدوار برييل) ثم (الكومندار صمؤيل بارون) فى إصرار من الولايات المتحدة على أن تضع يدها على هذه الشواطئ الدافئة التي لم تنجح فيها إلا أنها جعلت من هذه المعارك على شواطئ طرابلس عنوانا لنشيد بحريتها يتغنى به جنودها إلى اليوم (1) (من قاعات منتزوما، إلى شواطئ طرابلس، نخوض معارك بلادنا، في الجو والبر والبحر، نحارب لأجل الحق والحرية أولا، ونذود عن شرفنا الرفيع، ونفخر بأننا جديرون باسم جنود بحرية الولايات المتحدة
From the Halls Montezuma To the shores of Tripoli, We fight our country`s battles ln the air, on land, and sea, First to fight for right and freedom, And to Keep our honor clean, We are proud to claim the title of UNITED STATES MARINE) (2)
وقاعات منتزوما هي القصر الوطني فى العاصمة المكسيك التى سقطت في أيدي القوات الأمريكية وكان (جنود البحر) فى طليعة قوات الاحتلال التى استولت على القصر الوطني – مقر رئيس جمهورية المكسيسك – وعرف فيما بعد بـ (قاعات منتزوما) نسبة إلى منتزوما الثاني آخر إمبراطور أزتكي قبل الحملة الاستعمارية الاسبانية عام 1521، ونجم عن الحرب استيلاء الولايات المتحدة على أراض مكسيكية واسعة ، وضمتها إلى أراضيها، وهي المعروفة اليوم بـ (كاليفورنيا – واوتاوه – ومعظم أراضي كولورادو ونيفادا – وكل أراضي تكساس) ، وقد لعب هذا النشيد دوراً تاريخياً يؤسس لتذكر ملاحم الحرب الشرسة على شواطئ طرابلس ومازال نغما يعزف من حين إلى آخر بترنيمات موسيقية مختلفة تتناغم مع تشعبات السياسة وقواعد التحالف الدولي الذى يختار دائما أوقاتا مناسبة للإيقاع بضحاياه .
كان لأسر السفينة المقاتلة (فيلادلفيا) كنواة لقوة بحرية صاعدة فى 2/مايو/1803م أثر بالغ فى الرأي العام الأمريكي خاصة وأن عدد الأسرى من البحارة على متنها قد بلغ 308 بحار من عسكريين ورماة وطاقم إداري وأطباء وفنيين وغيرها من التخصصات اللازمة لأداء الحملة البحرية، وقد أثار ذلك حفيظة الكثير من الكتاب والصحفيين الأمريكيين الذين أبدوا آراءهم حول هذه الحملة وأحوال السجناء من البحارة، كما أبدى كثير من القادة الأروبين رغبتهم في التوسط ، وعلى رأسهم نابليون بونابرت، إلا أن يوسف القرمالي رفض كل الوساطات الأوربية لإطلاق سراح الأسرى إلا فى 6.يونيو.1805م بعد أن طلبت الولايات المتحدة وقف الحرب ودفع غرامة مالية لليبيا وتبادل الأسرى بين البلدين وتم تسفير الأسرى على متن السفينة (الدستور) إلى مالطا (3).
وقد دون عدد من الأسرى الأمريكيين الذين كانوا على متن السفينة فيلادلفيا شهاداتهم على هذه الواقعة تفصيلاً فى العديد من المؤلفات والصحف والمقابلات بعد إطلاق سراحهم .
هذه الوقائع التاريخية لم تغادر أذهان صانعي السياسة الأمريكية الذين يهدفون منذ نشأة الولايات المتحدة الأمريكية إلى إيلاء اهتمام مبالغ فيه بليبيا تحت أنماط وأشكال تدخلات مختلفة بدأت عسكرية في بداية القرن الثامن عشر ثم سياسية في منتصف القرن التاسع عشر. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإصرار (آيزنهاورا الرئيس الأمريكي على رفض طلب (ستالين) بأن تكون ليبيا من حصة روسيا في محادثات الولايات المتحدة الأمريكية مع (روسيا – وبريطانيا) بعد الانتصار فى الحرب العالمية الثانية كما ساهمت الدبلوماسية الأمريكية فى الجمعية العامة للأمم المتحدة فى إفشال مشروع (بيفن سيفورزا ) بتقسيم ليبيا ودافع دبلوماسيها نحو التصديق على استقلال ليبيا فى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتصبح ليبيا منذ استقلالها فى24.ديسمبر.1951م حقلا خصبا لنجاح الأطماع الأمريكية فى ليبيا التىي فشلت فى تحقيقها منذ (1801م وما بعدها) وتحجيم الدور البريطاني والفرنسي المنافسين لها .
المحطة الثانية
2- دولة الاستقلال
لم تستطع دولة الاستقلال الهشة الصمود أمام مطالب بناء الدولة وتحقيق حاجات المواطنين فى ظل شح الموارد وامتناع العديد من الدول عن إقراضها للوفاء بالتزاماتها الوظيفية فاضطرت إلى تحقيق الحلم الأمريكي الذي بدأ فى (1801) (4) وتأجير مساحات من أراضي طرابلس لإنشاء قاعدة أمريكية بين طرابلس وتاجوراء (هويلس) لتكون عنوانا للسيطرة على مقدرات البلاد وتوجيه سياساتها المحلية والإقليمية بمقابل مادي إضافة الى السماح للأمريكيين باستخدام الأراضي الليبية لتدخلاتهم الإقليمية والتكتيكية، حيث تم منحهم مساحات شاسعة لتدريب جنودهم أو جنود الدول المتحالفة معهم في غرب ليبيا جنوبي زواره فى منطقة الوطية كقاعدة رماية وتدريب، ومواقع أخرى على الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وهو ما مكن الولايات المتحدة من تطوير توسعها الاقتصادي فى ليبيا وتكبيل الدولة الناشئة بمساعدة مالية عن طريق برنامج النقطة الرابعة من (مشروع مارشال المتفرع عن مبدأ ترومان) فعلى أساس هذا البرنامج عقدت الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقية عامة فى 15 من يونيو سنة 1951 مع حكومات بريطانيا العظمى وفرنسا كدولتي إدارة ومع حكومة ليبيا المؤقتة فى 21 من يناير سنة 1952، وعلى أساس هذه الاتفاقيات صارت الولايات المتحدة الأمريكية تقدم مليون دولار لليبيا من أجل تطوير الزراعة واستغلال موارد المياه ومن أجل تطوير التعليم والخدمات الصحية أيضا، ولتنفيذ هذه الاتفاقية شكلت الدائرة الليبية – الأمريكية للمساعدة التقنية والتى كانت ذات صلات مع خبراء منظمة الأمم المتحدة وكانت ((المساعدة)) الأمريكية فى الواقع أجراً لاستخدام القواعد العسكرية في أرض ليبيا .
قد أضفت الاتفاقية الليبية – الأمريكية شأن المعاهدة مع انجلترا صفة القانون على وجود القوات الأمريكية فى البلاد على مجرى 20 سنة، ومنحت الاتفاقيات الولايات المتحدة الأمريكية حقوقا غير محدودة فى استخدام الأراضي الليبية فى الأهداف العسكرية (بما فى ذلك إجراء الأعمال الطوبوغرافية وعمليات المسح الجوي فى أية منطقة من البلاد) وإقامة سارية إذاعة فى منطقة مصراته، ورادارات فى منطقة طرابلس ودرنه وطبرق وأقامت بالإضافة الى ذلك محطة تليفزيون فى قاعدة هويلس – فيلد وتمت الموافقة رسميا على هذه الاتفاقية فى 30/10/1954.
غير أنه، خلافا للمعاهدة الموقعة مع انجلترا التى كانت لا تعطي الحق فى ملكية الأراضي المستأجرة واستخدامها إلا لإنجلترا، فإن الاتفاقية الموقعة مع الولايات المتحدة الأمريكية كانت تضع فى الحسبان الملكية المشتركة للأراضي التى تستأجرها الولايات المتحدة الأمريكية والاستخدام المشترك لها من قبل كل من ليبيا والولايات المتحدة الأمريكية ومن قبل طرف ثالث تعقد معه ليبيا معاهدة صداقة وتحالف، وتحصل الأمريكيون على حق استخدام الأراضي المشتراة من أجل تدريب قطع عسكرية صغيرة لبلدان أخرى، وقد استخدم الأمريكيون هذا الحق بصورة واسعة فيما بعد من أجل إعداد طواقم الطيران للقواعد العسكرية الجوية لبعض دول حلف شمال الأطلسي فوق قاعدة هويلس – فيلد (وهو الاسم الذي صار يطلق بصورة رسمية على مطار الملاحة منذ سنة 1964) وبالإضافة إلى ذلك فإذا كانت المعاهدة المبرمة مع انجلترا تطرح إمكانية إعادة النظر فيها بعد مرور عشر سنوات، فإن الاتفاقية مع الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تنص على مثل هذه الإمكانية، والتزمت الولايات المتحدة الأمريكية بدفع مليون دولار لقاء استئجار الأراضي الليبية، ونتيجة للاتفاقية حددت الولايات المتحدة إقامة جيوشها فى قاعدة هويلس – فيلد العسكرية، وتحصلت على حق إقامة مطار للقصف فى الوطية (60 كم جنوب زوارة) .
وفى خطاب العرش الذى ألقاه الملك إدريس (فى 9 من نوفمبر سنة 1954) وصف الاتفاقية مع الولايات المتحدة الأمريكية بأنها انتصار عظيم لليبيين، وهي فى الواقع كانت انتصارا للولايات المتحدة الأمريكية التي ظفرت بحق الاحتفاظ فى ليبيا بأي عدد من الجيوش وبأي نوع من التقنية الحربية وبحق استخدام الأراضي الليبية في أهدافها العدوانية، وعلاوة على ذلك كان سمح لها بتأهيل وتدريب عسكريي بلدان الناتو في محطات وميادين تجريب الأسلحة .
وفى البيان الذي نشر فى مارس سنة 1957 بمناسبة وصول نائب رئيس الجمهورية ومستشاره إلى ليبيا تم التعبير عن موافقة ليبيا على التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية (دفاعا ضد أي اعتداء مسلح قد توجهه قوى الشيوعية الدولية ضد أي بلد من بلدان الشرق الأوسط) إلا أن دراسة البيان تؤكد على أن ليبيا كانت تعول على (مساعدة) أمريكية إضافية .
وكان قبول ليبيا (مبدأ ايزنهاور) يعني أن تقوم الحكومة بتطبيق سياسة مكشوفة موالية لأمريكا، وهو ما يمكن التسليم به رغم الأصوات الوطنية المعارضة لهذه السياسات الرعناء التي مهدت الطريق أمام صغار الضباط للانقضاض على مقاليد الحكم بدون مقاومة ووسط تأييد شعبي عارم فى 1/9/1969م.
(1) رضوان ابوشويشه (عند باب البحر هوامش مجهولة من تاريخ – طرابلس)
(2) يوميات الطبيب جوناثان كودري فى قلعة طرابلس الغرب (1803-1805) ترجمة وتعليق عبد الكريم أبوشويرب. منشورات مركز جهاد الليبيين ضد الغزو الايطالي (طرابلس 1982م)
(3) مدخل مجلة مركز دراسات لعالم الاسلامي سلسلة الدراسات الياسية والاستراتيجية ص9 وما بعدها.
(4) رفعت السيد احمد مجلة مركز دراسات العام الإسلامي سلسلة الدراسات السياسية والاسترايجية ص79 وما بعدها.