رشيد خشانة – تؤكد تقارير أن طائرات شحن عسكرية وسفنا محملة بالأسلحة ما زالت تتدفق على طرفي النزاع في ليبيا، بموازاة الحل السياسي، ما يفرض عدم الإفراط في التفاؤل.
من سخرية الأقدار أن استقالة فائز السراج من رئاسة المجلس الرئاسي ورئاسة حكومة الوفاق، تزامنت تقريبا مع استقالة عبد الله الثني رئيس الحكومة المؤقتة في المنطقة الشرقية، على الرغم من أن الأول يقود حكومة شرعية معترفا بها دوليا، فيما “المؤقتة” غير شرعية. فاستقالة الثني أتت تعبيرا عن العجز على حل مشاكل المواطنين المعيشية في بنغازي، وغيرها من المدن الشرقية، وهي عنوان إفلاس سياسي، بعدما ظل ألعوبة بين يدي الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. أما السراج فقرر الخروج من الباب الكبير محتفظا بجميع أوراقه، التي ستجعل منه رقما مهما في المستقبل.
فمثلما دخل السراج إلى سدة الحكم من بوابة الصخيرات (2015) ها هو يستعد لمغادرتها (مؤقتا) عبر بوابة بوزنيقة. لكن لماذا أعلن عزمه على الاستقالة قبل نهاية الشهر المقبل؟ يمكن اعتبار هذا الإعلان خطوة أولى في طريق تنفيذ مخرجات بوزنيقة، والتي توافق خلالها مفاوضو الطرفين على البدء بإعادة تشكيل المجلس الرئاسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية، بالاضافة لإجراء انتخابات خلال 18 شهرا؟
وإعادة التشكيل تفترض طبعا تخلي السراج عن موقعيه، رئيسا للمجلس الرئاسي ولحكومة الوفاق، ولذلك فهو لم يعلن الاستقالة، وإنما أبدى استعداده للتنحي إذا ما اختير بديلٌ منه. كما أنه ربط التنحي بالتوقيت الذي يتوقع أن تستكمل فيه الأمم المتحدة إعداد خريطة الطريق، بالتشاور مع ممثلي الطرفين المتصارعين. وسيكون ذلك على الأرجح في الاجتماع المقبل للجنة التوجيه، المؤلفة من خمسة أعضاء عن كل طرف، في بوزنيقة خلال الأسبوع الأخير من أيلول/سبتمبر الجاري. بتعبير آخر، اختار السراج استباق مخرجات بوزنيقة بتنفيذ “حصته” من الإجراءات المتفق عليها في الاجتماع الأخير، ولكن ليس للانسحاب من الحلبة، وإنما من باب التكتيك اللينيني المعروف “تراجع خطوة لتقفز اثنتين”. كما استطاع السراج إحراج حفتر بهذا الإعلان، لأن الجنرال لا يعترف في قاموسه بالاستقالة أو التراجع التكتيكي. ولا شيء يُفسر صمته بعد الإعلان عن مخرجات بوزنيقة سوى أن داعميه الدوليين والإقليميين فرضوا عليه “الانضباط” والكف عن استفزاز قوات الحكومة الشرعية في محيط مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس).
مستقبل ليبيا في موسكو وأنقرة
من هذه الزاوية تبدو الأمور وكأنها تسير في اتجاه إبعاد متزامن للسراج وحفتر، لكن الفارق بينهما أن أوراق الجنرال احترقت، مع فرار قواته من طرابلس، بينما ما زالت في جعبة السراج أوراق لم يستخدمها، بينها الترشح لرئاسة الدولة أو الحكومة، في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة. وبالعودة إلى السؤال عن توقيت الإعلان عن هذه الاستقالة، يبدو أن السراج حسم أمره في أعقاب اجتماعي موسكو وأنقرة الأخيرين، في شأن مستقبل ليبيا. فقد اجتمع مصريون وروس في موسكو لتثبيت الوقف النهائي لإطلاق النار في جبهتي سرت والجفرة، واستطرادا ضبط الايقاع وتوحيد الرؤى في شأن مآلات المرحلة الانتقالية وميقات الانتخابات، وإن كانت المفوضية العليا للانتخابات تؤكد أنها غير جاهزة لوجستيا وماليا لإدارتها.
الجدير بالملاحظة هنا أن روسيا بدأت حوارات مباشرة مع بعض الفرقاء الليبيين، في موسكو، على غرار الاجتماع بين نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف والرئيس السابق للمؤتمر الوطني العام، رئيس تيار “يا بلادي” حاليا نوري بوسهمين، الأربعاء في موسكو، بالإضافة للاتصالات المستمرة مع سيف الإسلام نجل الزعيم الراحل معمر القذافي، الذي التف حوله أخيرا عدد من أعمدة النظام السابق. والغريب أن بوسهمين، الذي ترك خلفه في المؤتمر الوطني، بصمات تثبت اعتماده على العلاقات العشائرية والمناطقية، أبدى رغبته بأن يكون “شريكا فاعلا في بناء دولة المؤسسات”! ليس بوسهمين الوحيد في هذا المجال، فمع كثرة الحديث عن الانتخابات المقبلة، تتحفز شخصيات عديدة للعودة إلى الملعب السياسي بدعم من القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في المعادلة الليبية.
توافق روسي تركي
أما في أنقرة فاجتمع الروس والأتراك معا، بحثا عن توافقات في الملف الليبي، بغية ضمان ديمومة وقف إطلاق النار، ووضع الحل السياسي على سكة التنفيذ. واستفاد الجانبان من خبرتهما في التوافقات على الساحة السورية، من أجل الوصول إلى “أستانا ليبية”. ولم يشارك في اجتماعي موسكو وأنقرة وزيرا الخارجية، وإنما “خبراء” من الماسكين بالملف الليبي، وهم الطباخون الحقيقيون في كل من موسكو وأنقرة. ومن هنا تتوضح أهمية الاجتماعين، اللذين ساهما في تحفيز السراج على إعلان انسحابه الوشيك من الرئاستين، بعدما أدرك أن لا مكان له في الصيغة الانتقالية المطروحة، مع الاحتفاظ بأوراقه للمرحلة اللاحقة. وبات من الواضح اليوم أن الحل روسي – تركي، وأن هذا الثنائي هو من سيبحث ترتيبات المرحلة المقبلة مع اللاعبين الخاسرين، ومنهم فرنسا وإيطاليا ومصر والامارات.
مجلس رئاسي مصغر
عندما يعود الوفدان، اللذان يضم كل واحد منهما خمسة نواب من المجلس الأعلى للدولة (مقره في العاصمة طرابلس) ومن مجلس النواب (مقره في طبرق- شرق) المؤيد لحفتر، إلى الاجتماع، سيناقشان معاودة تشكيل المجلس الرئاسي، المؤلف من تسعة أعضاء، والذين يتجه رُعاة الحل إلى تقليصهم إلى ثلاثة فقط، بالإضافة إلى تسمية رئيس جديد للحكومة. كما سيناقشون أيضا التسميات في المناصب السيادية، وفقا لمعايير اتفقوا عليها، وأكدوا أنها “آليات شفافة وموضوعية”. وهذه المناصب هي المؤسسة الوطنية للنفط، التي تعتبر العامود الفقري للاقتصاد الليبي، ومصرف ليبيا المركزي وقيادة القوات المسلحة. وسيُراعى في اختيار المسؤولين عنها العمل على إعادة توحيدها، بعدما ظهرت بعض التشققات، الناتجة عن محاولات حفتر وداعميه تقسيم مؤسسات الدولة بين الشرق والغرب، لا سيما بعدما عمد إلى إقفال الحقول والموانئ النفطية، لإرباك حكومة الوفاق. وقد تُضاف إلى المؤسسات الثلاث المذكورة أربع أخرى هي المفوضية العليا للانتخابات والنائب العام وهيئة مكافحة الفساد وهيئة الحوكمة والرقابة الادارية.
والمُتوقع في المدى القريب أن بعثة الأمم المتحدة للدعم، التي استكملت “مشاورات مكثفة استمرت أسابيع” على ما قالت، مع الأطراف الرئيسة، الليبية والدولية، ستطلق الترتيبات اللازمة “لاستئناف الحوار السياسي الليبي الشامل” في إشارة إلى المؤتمر الليبي الليبي، الذي تمت التهيئة لعقده في مدينة غدامس الحدودية مع الجزائر، أواسط نيسان/ابريل 2019 قبل أن يُحبطه حفتر بزحفه على طرابلس في الشهر نفسه. وكانت تلك العملية بداية تفكير الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة للدعم الدكتور غسان سلامة، بالاستقالة من منصبه.
خطوة استباقية؟
في السياق أكد عضو المجلس الأعلى للدولة، محمد معزب، أن المساعٍي منصبة حاليا على عقد اجتماع للجنة الحوار، مع نهاية هذا الشهر، أو بداية تشرين الأول/أكتوبر المقبل، ربما في جنيف، من أجل التوافق على تشكيل المجلس الرئاسي المصغر، والمؤلف من رئيس ونائبين، وتسمية رئيس جديد للحكومة. واعتبر معزب في تصريحات لوكالة “سبوتنيك” الروسية، أول أمس، أن السراج “أراد استباق الأمر وإفساح الطريق لتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة، وهذه مبادرة جيدة تساهم في حلحلة الأوضاع التي زادت تأزما” على ما قال.
أما أوروبا فتستعجل الوصول إلى مرحلة الحوار والاستقرار بسبب مخاوفها المتزايدة من أن تعود ليبيا منصة متقدمة للهجرة غير النظامية، فضلا عن خشيتها من وجود برميل بارود في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. وهذا ما عبرت عنه المستشارة الألمانية إنغيلا ميركل ورئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي في مكالمة هاتفية بينهما الخميس، ركزاها على الوضع الليبي وآفاق حلحلته.
يبقى السؤال الكبير: من سيتعاطى مع الميليشيات المتحكمة في طرابلس ومدن أخرى، بعد خروج السراج، الذي كان يحسن تطويعها بالمال وبمُحفزات أخرى؟ تُردد بعض التسريبات اسم عقيلة صالح بوصفه مرشحا محتملا لرئاسة المجلس الرئاسي، وقد يكون هو من يقف خلف هذه التسريبات، لكن الثابت أنه لا عقيلة صالح ولا أي زعيم من المنطقة الغربية، يستطيع التحكم بتلك الميليشات، المتمردة أصلا على جميع السلطات، والمتنافسة في ما بينها حد الاقتتال. ولا يوجد سوى مسارين يمكن أن يُساعدا على ضبطها، وهما مشروع الجيش الوطني، الذي أعلنت تركيا أنها ستساعد على تكوين ضباطه، والذي يستغرق إعداده بعض الوقت. أما المسار الثاني فيتمثل في إدماج عناصر الأجسام العسكرية غير الشرعية في قوات الأمن والجيش، وتأهيلهم للعودة إلى الحياة المدنية، بشرط ألا يكونوا ارتكبوا جرائم حرب.
استمرار شحن الأسلحة
وهناك ملف شائك آخر يتمثل بالأسلحة الثقيلة المنتشرة في المدن، والتي تشكل خطرا جسيما على حياة المدنيين. وهذا الملف لا تقدر على التعاطي الحازم معه، على الأقل حاليا، سوى القوى الدولية والإقليمية، التي أرسلت تلك الأسلحة، إذا ما صحَ منها العزم على المساهمة في إنهاء الصراع العسكري وبناء السلام الأهلي. وتؤكد تقارير متطابقة أن طائرات شحن عسكرية وسفنا محملة بالأسلحة، ما زالت تتدفق على طرفي النزاع في ليبيا، في خط مواز للتقدم المسجل في الحل السياسي، مما يفرض عدم الافراط في التفاؤل. وبالنظر لخطورة التسليح المفرط عادت نائبة رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم، ستيفاني وليامز، إلى حض الدول المعنية على “التقيد التام بقرار حظر التسليح الذي تفرضه الأمم المتحدة” لكن لن يُسمع لها من دون توخي الردع أو المحاسبة.
والسؤال الآخر هو إذا لم تتوصل لجنة الحوار (ومن خلفها أصحاب القرار الإقليميين والدوليين) إلى صيغة مقبولة لمعاودة تشكيل المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق، هل سيستمر السراج، أم يغادر موقعه، خاصة أن العلاقات بينه وبين باقي أعضاء المجلس الرئاسي وأعضاء حكومة الوفاق ليست على ما يُرام؟
خطة واضحة المعالم
الملف الشائك الأخير يخص إعادة تصدير النفط، الذي بات أمرا حيويا للدولة، بل عنصر احتقان للبلد بأسره. وأكد رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط، مصطفى صنع الله، أن المفاوضات التي تجريها المؤسسة بشأن معاودة تصدير النفط، “بالتنسيق مع المجلس الرئاسي والمجتمع الدولي” تتضمن مبادرة وخطة واضحتي المعالم. وتشمل الخطة، بحسب صنع الله، “التشغيل الآمن للحقول والمواني النفطية، وحماية المستخدمين والأهالي في مناطق الإنتاج والتصدير، إضافة إلى خروج جميع المجموعات المسلحة بكل مسمياتها”.
في المحصلة، وعلى الرغم من تواضع الخطوات التي قُطعت حتى اليوم، فإن أكبر مكسب لليبيا هو تفادي التقسيم، الذي كان الاتجاه الاجباري، وسط ظلام النفق الذي تردت فيه الأوضاع قبل اجتماعات بوزنيقة. لكن هذا الشبح لن يُطرد نهائيا ما لم يذعن جميع الفرقاء للحل السلمي، القائم بالضرورة على تنازلات متبادلة.