رشيد خشانة – موقف القاهرة الجديد لا يعني أنها ستتخلى عن حليفها الاستراتيجي الجنرال حفتر، فهو حاليا أهم ورقة بين يديها، لكنها ستنفتح على الأرجح على أطراف أخرى.
لم تنته سنة 2020 إلا والمشهد الليبي قد انعطف نحو اتجاهات جديدة، من علاماتها التقارب المفاجئ بين مصر وحكومة الوفاق، والجولة التفقدية التي قام بها وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، مستعرضا قوات بلاده المرابطة في غرب ليبيا، واضطرار فرنسا إلى مراجعة حساباتها في منطقة الساحل والصحراء بعد تزايد خسائرها البشرية.
وفي هذا الإطار طغت المسائل الأمنية والعسكرية على المحادثات التي أجراها وفد مصري رفيع المستوى، للمرة الأولى منذ 2016 مع وفد ليبي ضم رئيس المخابرات التابع لحكومة الوفاق ووزيري الداخلية والخارجية فتحي باشاغا ومحمد طاهر سيالة. لم تكن تلك الزيارة، التي لم يُكشف الكثير من أهدافها، ترمي فقط إلى معاودة فتح السفارة المصرية في طرابلس في الأمد المنظور، وإنما تطرقت بالأساس إلى التنسيق السياسي والأمني، ما يؤشر إلى تعديل في الموقف المصري. والظاهر أن موقف القاهرة الجديد انبنى على المقولة الشهيرة “ليس هناك أصدقاء دائمون وإنما مصالح دائمة”. لا يعني هذا أن مصر ستتخلى عن حليفها الاستراتيجي الجنرال حفتر، فهو حاليا أهم ورقة بين يديها، لكنها ستنفتح على الأرجح على أطراف أخرى، سواء في المنطقة الشرقية (عقيلة صالح) أم في طرابلس ومصراتة.
وقد يُفهم من عدم التقاء الوفد المصري مع رئيس الحكومة فائز السراج، أن هناك في المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق من يرفضون التطبيع مع مصر، وربما هم لا يعترضون على معاودة العلاقات، لأنها نقطة تُسجل لصالحهم، وإنما يحترسون من تبلور خط مؤيد لمصر في المجلس أو الحكومة، خصوصا بعد زيارة الوزير باشاغا للقاهرة أخيرا.
والمؤكد أن الهزيمة العسكرية التي مُنيت بها قوات حفتر، هي التي حملت المصريين على البحث عن شركاء آخرين، من باب الواقعية السياسية، كي لا تنفلت خيوط اللعبة من بين أصابعهم. وأوحت الأجواء التي رافقت زيارة الوفد المصري أن الحوار كان سالكا بين الطرفين، بالرغم من أن الزيارة تزامنت مع زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، التي رأى فيها بعض المصريين حركة “استفزازية”.
مراجعة فرنسية
لم تقتصر المراجعات على القاهرة فحسب بل شملت أيضا باريس أحد الحلفاء الأساسيين للجنرال حفتر، فمع سقوط مزيد من الجنود الفرنسيين قتلى وجرحى في منطقة الساحل والصحراء، انطلق الفرنسيون في عملية مراجعة للخيارات التي وضعها وزير الخارجية الحالي جان إيف لودريون، منذ توليه مقاليد وزارة الدفاع في عهد الرئيس السابق فرنسوا أولاند، والقائمة على التدخل العسكري من خلال قوة “سيرفال” ثم “برخان”، في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد. وفي نهاية السنة المنقضية ارتفع عدد القتلى من الجنود الفرنسيين إلى 47 قتيلا (منذ 2013) بعدما قضى ثلاثة جنود في انفجار لغم بمالي، ما سبب حزنا وغضبا لدى الفرنسيين. واضطر رئيس الحكومة جان كاستاكس إلى قضاء ليلة رأس السنة، مرابطا مع وزيرة الدفاع بارلي إلى جانب أفراد قوة “برخان” في العاصمة التشادية نجامينا لرفع معنوياتهم.
وحاول الرئيس ماكرون تعزيز القوات الفرنسية المرابطة في المنطقة بزيادة العدد والعتاد، لملاحقة الجماعات الارهابية سريعة التنقل، بحكم معرفتها الجيدة بتضاريس المنطقة، إلا أن التوابيت ما زالت تصل إلى باريس، محملة برفات جنود شباب قضوا في مطاردة الجماعات الارهابية، المتفوقة ميدانيا. ومع تحفز البرلمان ووزارة الحرب الفرنسية لتعديل السياسة المتبعة حتى الآن في منطقة الساحل والصحراء، يخسر الجنرال حفتر أحد داعميه البارزين، وتفقد فرنسا كثيرا من المصداقية والقدرة على التأثير في الملف الليبي.
بالمقابل سيضعُف نتيجة لذلك موقع خصم آخر من خصوم حكومة الوفاق، واستطرادا ستكون هناك انعكاسات بعيدة المدى أيضا في الصراع العلني بين تركيا وفرنسا في شرق المتوسط. واللافت أن رئيس الحكومة الفرنسية حرص على زيارة ثلاثين جنديا مرابطين في واحة فايا لارجو شمال تشاد، القريبة من الحدود الليبية، كما زار قاعدة “قُصي” حيث يوجد مقر قيادة قوة برخان. لكن لا يعرف بالتفصيل ما هي الخطة الفرنسية البديلة في الساحل، ولا حجم القوات التي سيتم استبقاؤها في المنطقة. لكن في جميع الحالات، باتت الاستراتيجيا الفرنسية في المنطقة قائمة على مبدأ الدفاع، مع سحب قسم من قوة “برخان” بدل تعزيزها. ويؤكد الخبير الفرنسي توماس غاسيلو أن الخيارين المطروحين على المائدة حاليا هما: هل ينبغي الانسحاب أم البقاء؟ وهناك حل ثالث يدعو إلى أن تعمل القوات الفرنسية في الخطوط الخلفية للقوات المحلية، التي ستتصدر الحرب على الجماعات المسلحة، ما يعني الدفع بالجنود المحليين إلى الموت، وجعلهم دروعا بشرية لحماية القوات الفرنسية.
ووصفت مجلة “لوبوان” القريبة من أوساط الحكم في باريس الموقف الفرنسي بكونه “انزلاق مرشح لكي يطول (في الزمن)”. والأرجح أن صورة فرنسا ستكون شاحبة حتى لدى حلفائها الأوروبيين والمحليين، وهو ما يمنح الأمريكيين قدرة أوسع على الحركة والمناورة. ولم يترك السفير الأمريكي لدى ليبيا نورلاند أي يوم ينقضي، إلى عشية أعياد الميلاد، إلا واجتمع مع رئيس المفوضية العليا للانتخابات أو أحد أعضاء حكومة الوفاق، أو أشخاص نافذين من دائرة الجنرال حفتر، أو رؤساء عشائر، في إطار ترطيب الأجواء تمهيدا للحل السياسي.
تذبذب أمريكي
غير أن الموقف الأمريكي ما زال متذبذبا، بين شق يدعو إلى استخدام قوة العقوبات ضد تركيا، وشق ثان يدعو لغض الطرف عن شريك استراتيجي عضو في حلف شمال الأطلسي، طالما أنه قادر على احتواء التمدد الروسي في ليبيا، والذي يهدد المصالح الأمركية في شرق المتوسط. إلا أن الأتراك يبدون غير عابئين بتلك التهديدات، ربما بناء على معلومات مفادها أن الإدارة الجديدة ستتخلى عن سياسة ترامب، الذي كان أميل إلى دعم حفتر ومموليه الإماراتيين ومسلحيه الروس وداعميه المصريين والفرنسيين. وتوجد مؤشرات عدة على أن إدارة بايدن ستتخلى عن دعم الجنرال حفتر، لكنها ستُبقي على العقوبات التي قررتها في حق تركيا لأسباب لا تتعلق بالأزمة الليبية، وإنما بمقتضيات الصراع مع موسكو، وتحديدا إقدام أنقرة على شراء منظومة إس 400، وهي العقوبات التي رد عليها الرئيس إردوغان واصفا إياها بأنها “غير محترمة”.
استعدادات عسكرية
وعلى الرغم من التهديدات الأمريكية، التي استهدفت تركيا بسبب شرائها منظومة الدفاع الجوي “أس 400” والتي وصلت إلى مرحلة العقوبات، يبدو أن اردوغان ماض في تكثيف الحضور العسكري والتجاري التركي في ليبيا. وأتت زيارة وزير دفاعه أكار لتكشف بعضا من الوجود العسكري المباشر وسياسة كسر العظم التي تنوي تركيا انتهاجها متى ما تحركت القوات المؤتمرة بأوامر الجنرال حفتر في اتجاه الغرب، أي صوب العاصمة طرابلس.
واعتبر أعضاء في الكونغرس أن تركيا تقوض حلف شمال الأطلسي، من ذلك أن كبير الديمقراطيين والجمهوريين في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب انتقدا شراء تركيا لمنظومة الدفاع الجوي الروسي وأعمال الحفر في البحر المتوسط.
وكانت العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا متوترة في بعض الأحيان في السنوات الأخيرة، وبات الديمقراطيون في الكونغرس، على وجه الخصوص ينتقدون سياسات أنقرة. وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، طالبت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين بفتح تحقيق في الانتهاكات التركية لحقوق الإنسان في كل من سوريا والعراق وليبيا وأماكن أخرى. كما انتقد الرئيس المنتخب جو بايدن الحكومة التركية خلال حملته الانتخابية، ما جعل بعض المحللين يُرجحون أن يؤدي ذلك التباعد إلى علاقات أكثر برودة مع أنقرة.
في السياق رأى عضوا الكنغرس إليوت إنجل (ديمقراطي من نيويورك) ومايكل ماكول (جمهوري من تكساس) “أن هناك قيمة في العلاقة القوية بين الولايات المتحدة وتركيا” لكنهما اعتبرا أن مستقبل العلاقات سيحدده اردوغان. وحضا “بشدة” الرئيس التركي على وضع حد لـ”السلوك الاستفزازي لتركيا”، حتى يتمكن الجانبان، مرة أخرى، من “التمتع بعلاقة وثيقة ومُتعاونة” على ما قالا.
والظاهر أن الأتراك لا يعبئون كثيرا بالتهديدات الأوروبية، التي لا يأخذونها مأخذ الجد، بسبب انقسام الصف الأوروبي، إلا أنهم يعيرون أهمية كبيرة لتعديل الموقف الأمريكي. وهم يعتمدون على اللوبي التركي القوي في واشنطن. لكن اللوبي اليوناني، الذي لا يقلُ نفوذا عن غريمه في مجال الكولسة، يُضايق الأتراك ويُعطل قدرتهم على التأثير أحيانا.
قصارى القول إن التغييرات التي طرأت على المشهد الليبي، بناء على المتغيرات الجديدة في الموقف الفرنسي والمصري والأمريكي، ستكون لها استتباعات وتداعيات على الصراع الليبي ـ الليبي، في اتجاه إضعاف مواقع القائد العسكري للمنطقة الشرقية حفتر والأطراف المرتبطة به. وهذا من شأنه أن يُعزز فرص الوصول إلى تسوية شاملة. ومن الواضح أن الأتراك استطاعوا أن يُحققوا أكثر مما حققه الروس والأوروبيون، إذ لا مجال لتحقيق أي حل سياسي لا ترضى عنه أنقرة، بحكم تغيُر الموازين العسكرية. غير أن توقف الاجتماعات التي تشرف عليها الأمم المتحدة، والغموض الذي يلف تسمية رئيس جديد لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، لن يُبرزا تلك التداعيات على السطح قريبا، وإن كانت المفوضية العليا للإنتخابات ماضية في الإعداد الفني للانتخابات العامة المقررة للرابع والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وليس من المبالغة القول إن الليبيين بمختلف أطيافهم فقدوا زمام المبادرة وبات مفتاح الحل بأيدي القوى الإقليمية والدولية التي رسخت وجودها في البلد من خلال القواعد العسكرية التي أقامتها على الأراضي الليبية. وأكدت نائبة رئيس البعثة الأممية سابقا ستيفاني وليامز أن هناك عشرة قواعد أجنبية في ليبيا، من دون أن تفصح عن أسماء الدول التي تنتمي لها تلك القواعد. والأرجح أنها قواعد روسية وتركية ومصرية وإماراتية وإيطالية.