لست من مؤيدي عودة «التائبين» ولا إعادة العلاقات مع دمشق
يعيش د. هشام جعيط سباقا مستمرا مع الزمن حيث يسعى وهو الذي تجاوز الثمانين إلى إعادة قراءة عديد الكتب، ولكن بنظرة مختلفة والتمتع بإعادة اكتشاف ما كان خفي عنه بين سطورها.
المفكر هشام جعيط الذي ساهم في تأثيث المكتبة الانسانية بكتبه وبحوثه ومراجعاته حول تاريخ الفكر الاسلامي ورغم حرصه على تجنب الظهور الاعلامي يظل متابعا دقيقا للأحداث الدولية والمحلية وناقدا لمختلف الاحداث المتسارعة في المشهد الدولي. وخلال اللقاء الذي تجاوز الثلاث ساعات قدم لنا قراءته لمختلف الازمات والصراعات الاقليمية والدولية وتوقعاته للأحداث في فرنسا وألمانيا ولكن ايضا في سوريا واليمن وفلسطين وليبيا، بنظرة المفكر والناقد والمؤرخ الذي يواكب نبض العالم ويفاجئك أحيانا بمتابعة أدق التفاصيل والمستجدات.
وفي ما يلي نص الحديث.
* أين هشام جعيط مما يحدث في العالم، وهل للمفكر الذي أثار اهتمام النقاد والباحثين اهتمام بما هو خارج مكتبته ونادي الشطرنج الذي يتردد عليه؟
– حياتي بين الكتب وهذا عالمي، أقضي الوقت في إعادة قراءة ما سبق أن قرأته ايام الشباب ولكن بتمعن وفي كل مرة أكتشف المزيد وأتذوق أكثر ما كنت قراته قبل عشر سنوات… أجد في ذلك نظرة مختلفة ومهتم جدا بتاريخ الأديان او فلسفة الأديان كما أهتم بالتاريخ الروماني والهندوسية والبوذية وأهوى اكتشاف الحضارات الإنسانية. وأعتقد أنه مخطئ من يعتقد ان لا وجود لغير التاريخ الإسلامي أو ما هو غربي. العرب لا يهتمون بتاريخ الإنسانية والتاريخ القديم للصين واليابان والهند. ولكن دراسة الانتروبولوجيا تفتح الآفاق.
كنت أهتم في شبابي بالفلسفة ولكن لم أدرسها دراسة عميقة مثل اهتمامي بالتاريخ، ربماكان ذلك بتأثير من هيغل. انتهيت من قراءة كتاب مهم Desenchantement du Monde لمارسيل غوشيه Marcel Gauchet وقد أخذ مفهومه عن ماكس ويبر ويهتم فيه بالإنسانية التي كانت ترى العالم مليئا بالآلهة والجنون والأرواح. و لكن الغرب اليوم تخلص من هذه المعتقدات في وجود الماورائي وما هو فوق الطبيعة. السؤال كيف خرج العالم الغربي من الدين؟
يعتقد صاحب الكتاب ان الغرب خرج من الدين لأنه مسيحي وأن المسيحية هي الدين الذي يخرج العالم من الدين. طبعا، لا نقول الدين خرج من الغرب ولكن آليات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليم والمعرفة وكل ما تقوم عليه المجتمعات الإنسانية عارية عن الدين وهذا هو القصد. ستوجد دوما عناصر متدينة ولكن الدول وما تقوم عليه المجتمعات يسير دون الاعتماد على الفكرة الدينية وهذه هي آليات المجتمع الحديث.
* هل يعني هذا أن العالم الإسلامي يسير عكس الغرب؟
– العالم الإسلامي ومنذ ثلاثين سنة تقريبا في تحرك قوي واضطراب وما يريده من تغييرات ومطامح في هذه الفترة مستقر حول فكرة دينية وليس فكرة علمانية. في إيران مثلا جعلوا من الدين إيديولوجيا مثل الشيوعية في روسيا. كل المجتمع وقعت إعادة أسلمته في المظاهر الخارجية وفي التركيبة الاجتماعية وفي صميم الدولة، وإيران البلد الوحيد الذي اعتمد الدين كإيديولوجيا تقوم عليها دولة مستقرة على عكس بقية دول الشرق الأوسط التي تعيش حالة اضطراب مميت.
فالحركات والتغييرات السياسية الكبرى تسير في مجرى التاريخ او ضد مجرى التاريخ. والدول العربية والإسلامية بما فيها أفغانستان والسودان وسوريا والعراق والتي تعيش اضطرابات وحروبا، توظف الدين. وهي تعيش انقسامات دينية كبرى بين السنة والشيعة والسنة المتطرفة، كما في السعودية، وهذه مسألة صعبة الحل لأن هذه الحركات تقول انها تستقي أصولها من الدين. وهيمتجهة نحو العنف الكبير كما هو حال التنظيمات الإرهابية ومن ذلك «القاعدة» و»داعش».
* كيف ترى الازمة في سوريا بعد التحولات الميدانية الأخيرة؟
– لا أرى فيما يخص سوريا والحرب الشعواء وتقرير «أمنستي» الأخير عن شنق 13 ألف مدني في أحد السجون السورية في دمشق – وهي جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية – كيف يمكن حل الازمة السورية. الجيش السوري يقوم على القرابة الدينية ويتألف من أقليات تجمعها المصالح. الآن المشكلة ان بشار الأسد لم يقبل الثورة وأراد البقاء وحصلت حرب أهلية، لكن كانت له الإمكانيات للبقاء بسبب ولاءات طائفية قوية متحالفة مع السلطة وقد ساعدته روسيا وإيران.
مصيبة الشرق الأوسط انه عالم لم يهضم معنى حقوق الانسان، حتى بورقيبة كون حزبا شعبويا في البداية وفكرة الدكتاتورية طبقها ولكنه بما أنه في بلد صغير وتحت هيمنة فرنسا وأوروبا لم يمض بعيدا. ربما تكوينه ومزاجه مختلف ولكنفي الهلال الخصيب وفي اغلب دول العالم الإسلامي مضوا بعيدا. ولو اننا نظرا الى أغلب قيادات التنظيمات المتطرفة والحركات الإسلامية سنجد اغلبهم جهالا بمحتوى الدين وهذا هو الواقع.
* كيف تنظر الى التجربة التركية؟
– لو نظرنا الى تركيا سنجد ان توظيف الدين بصفة شعبية. أردوغان أراد ان يجعل من الانقلاب الفاشل مطية وهو يستهدف غولن وهو شخص صوفي وفي الأصل صديقه. انقلاب صغير ضخمه الى درجة كبيرة واستعمله كي يضرب كل ما يتعلق بالحريات واستهدف المعارضة والصحافيين والقضاة والأساتذة. كانت تركيا متقدمة الى حد ما وتطمح في الدخول الى الاتحاد الأوروبي ولكن أردوغان يعزل الآلاف ويسجن كل من له قيمة ولا يخضع للسلطة المطلقة الكليانية التي يريد أن يحدثها.
وكل هذا صمتت عنه أوروبا لان تركيا محمية أمريكية وهي عضو في الحلف الأطلسي ولها دور في ازمة اللاجئين… صحيح وجدت دكتاتوريات عسكرية في تركيا ولكن أردوغان يتجه الى دكتاتورية عسكرية منظمة ويتكلم باسم الدين.
* ولكن هناك أحزاب سياسية في تونس تدافع عن أردوغان وتعتبره نموذجا؟
– لأنه مثلهم، والعقلية التونسية أيضا لم تهضم حقوق الانسان والحريات. ولكن الفئات الشعبية لا تستطيع التحلي بالانضباط داخل الحرية وهذا أحد أسباب تردي الاقتصاد، والاضطرابات مرتبطة بالثورة ولكن أيضا بسوء استعمال الحرية. اذن لابد من بعض الوقت للتعود على الحريات…
* هل تعتقد ان لأوروبا أي دور في تعديل الكفة خاصة بعد ان بدأت توجهات الرئيس الأمريكي ترامب تتضح؟
– أوروبا في أزمة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتصاعد تيار القوى الشعبوية وأكبرها حزب مارين لوبان في فرنسا الذي بإمكانه الفوز في الانتخابات القادمة والحصول على 40 بالمائة من الأصوات.
وقد أدخل ترامب اضطرابا كبيرا على العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ومع العالم حيث أظهر انه مزاجي وليس له حس سياسي. أتى بأفكار محافظة في فترة لا تلاءم هذه الأفكار المجتمع الأمريكي الذي اتجه الى الحرية والانفتاح، والشباب الجامعي يتحرك كما تحرك في أوروبا في الستينات والسبعينات وفي حرب فيتنام.
أوروبا متخوفة من الرئيس الأمريكي الجديد وهي في حالة ضعف ولكن اذا اتجه ترامب الى الانعزالية القديمة وترك أوروبا متخليا عن العلاقات التي تأسست في اربعينات القرن الماضي فقد يكون في ذلك مصلحة لها، لتقوم أوروبا بذاتها عسكريا واقتصاديا.
* ولكن إسرائيل مرتاحة وقادتها سعداء بوجود ترامب في البيت الأبيض؟
– لا اعتقد ان الولايات المتحدة ستتجه الى تشجيع ناتنياهو، والإسرائيليون يستغلون فرصة وجود ترامب لتوسيع الاستيطان وهذه فعلا مسألة خطيرة جدا: فهذا زحف للاستيلاء على كل الضفة الغربية وناتنياهو يعبر عن اغلبية المجتمع الإسرائيلي الذي يريد العودة الى ما كان بيغن يخطط له، فيما العالم العربي نفض يديه من القضية الفلسطينية وعباس يتنفس بالمساعدات الأوروبية ويسيطر على دولة ليست بدولة.
كل العالم يقول انه ضد ناتنياهو ولكنه لا يقوم بشيء لتفعيل ذلك، ولو نظرنا ما يحدث في سوريا سنجد ان كل الفصائل السورية المعتدلة او المتطرفة تحصل على السلاح، من السعودية وقطر وتركيا وغيرها، على عكس الفصائل الفلسطينية تحت الاحتلال.
الفكر الإسرائيلي فاسد وما يحدث زحف استيطاني وناتنياهو يراهن على الزمن للوصول الى حدود الأردن، ومثل هذا الزحف الاستيطاني لم يحدث عبر التاريخ الا مع الرومان الذين كانوا يفتكون أراضي الغير بالقوة ويستوطنونها، مع فارق ان سياسة الرومان قبل اكثر من الفي سنة كانت اكثر ذكاء ومرونة.
اوباما أراد إيقاف الاستيطان ونجح بعض الشيء ولكن ما نراه ان أي رئيس امريكي غير قادر على الدخول في صراع مع إسرائيل.. فاللوبيات المتنفذة قوية و»ايباك» AIPAC مستقر في الدول الكبرى وله إمكانيات مالية رهيبة ويساهم المسيحيون المتطرفون، وهم أقلية، في تمويله ولهم تأثير على الانتخابات.
* اخترت منذ البداية الحديث عن القضايا الدولية والعربية الراهنة ولكن لا يمكن الا يكون لكل هذه الأوضاع تاُثيرها على المنطقة التي ننتمي اليها وتونس تحديدا.. فكيف يبدو المشهد اليوم؟
– أولا اشير الى أنى منشغل جدا لتفاقم الفقر في بلادنا وتراجع الطبقة المتوسطة وانهيار الدينار رغم الاحساس بأن هناك تطورا في مجال الحرب على التنظيمات الارهابية. ما أعيبه على السياسيين في تونس أنهم غير مهتمين بما يدور من حولنا في العالم ولا يهتمون الا بالأمور المحلية وهذا خطأ تشترك فيه الأحزاب المتنافسة وحتى وسائل الاعلام التونسية التي لا تهتم بغير الشأن الداخلي وبالتنافس بين الأحزاب.
الشوفينية هي التي تهيمن على المشهد التونسي ولا اشعر بأن هناك انفتاحا فكريا واهتماما بالعالم، بل انطواء على الذات، وهو ليس دوما خيار صائب.
ولا بد من الإشارة إلى أن مشكلة ليبيا تتجاوز قدراتنا وما يقال عن جولات وصولات زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في الشأن الليبي والديبلوماسية الشعبية مجرد استعراض(Show) ومفاتيح الملف الليبي ليست بيده.
قد يكون للجزائر دور في الحل كما يمكن لتونس أن تقدم رأيا في الشأن الليبي، فلنا حدود كبيرة ومصالح أيضا مع هذا البلد، ومع ذلك لا اعتقد ان القمة الثلاثية المرتقبة قادرة على تغيير الأمور.
* هل نحن إزاء نهاية مرحلة «داعش»؟
– الحرب مستمرة، الجيش العراقي بدأ يستعيد دوره وينظم صفوفه لاستعادة الموصل وهذا مهم وهناك عدة قوى تحارب هذا التنظيم بما في ذلك النظام السوري. القوى الدولية متحالفة بالكلام ضد التنظيم وليس بالفعل وهذا ما أخّر نهاية التنظيم. ونهايته كدولة محتلة لمساحات شاسعة تحت سيطرته لم تعد بعيدة، لكن الخطر ان يبقى «داعش» كتنظيم مثل «القاعدة» تماما، أي بلا قاعدة ترابية.
* هل تؤيد عودة المقاتلين من بؤر التوتر أو ما يسميهم البعض «التائبين»؟
– أرفض عودتهم.. ولماذا يعودون؟. لقد اختاروا القتال أو ما يسمونه «الجهاد» من أجل قناعاتهم، فلماذا يعودون؟
* وهل تؤيد عودة العلاقات مع سوريا؟
قطعا لا، هناك حرب مستمرة وهناك فظاعات خاصة بعد تقرير «أمنستي»…
* لكن دمشق تنفي ذلك، ثم انه ليس هناك وثائق تؤكد وقوع تلك الجرائم؟
– طبعا هم ينفون ذلك ولكن الأرجح انها حصلت…