رشيد خشانة – بموازاة الانتشار البطيء لفيروس كورونا في ليبيا، وجدت حكومة الوفاق الوطني نفسها بين فكي كماشة، طرفُها الأول الاتحاد الأوروبي، الذي قرر مطاردة السفن العابرة للبحر المتوسط، كلما ساوره شك بكونها تنقل أسلحة إلى ليبيا. أما طرفها الثاني فهو القائد العسكري للمنطقة الشرقية الجنرال خليفة حفتر، الذي يخوض حربا ضارية على تخوم طرابلس لمحاولة الاستيلاء على العاصمة. واليوم مضت سنة كاملة من دون اجتراح الهدف الذي كان مُخططو الحرب يتوقعون بُلوغه في بضعة أيام. وبين هذا وذاك، انطلقت حربٌ ثالثة على فيروس كوفيد-19 وإن بشيء من التأخير، وبوسائل محدودة جدا، بالنظر لانهيار البنية الصحية الأساسية، المُتداعية أصلا. من هذه الزاوية يُعتبر الليبيون الشعب الوحيد الذي يتحمل وزر ثلاث حروب في وقت واحد.
هدنة إنسانية؟
بالرغم من أن بعثة الأمم المتحدة للدعم والاتحاد الأوروبي وأطرافا دولية أخرى، أطلقت نداءات بالتزام “هدنة إنسانية” استمرت الاشتباكات على أشدها، وتمحورت حول قاعدة الوطية الجوية (غرب) ومناطق العسة والجميل ورقدالين وزلطن، التي تناوب الطرفان المتصارعان على السيطرة عليها، من دون حسم. وفي السياق دعت أخيرا شخصيات ليبية، من مختلف التيارات والقطاعات، إلى إرجاء الخلافات إلى ما بعد التغلب على جائحة كوفيد-19. وشارك في هذه الضغوط السفير الأمريكي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، الذي توجه بنداء، عبر “رسالة مفتوحة” إلى القيادة السياسية والعسكرية والشعب الليبي، لتحذيرها من “التهديد القاتل” المتمثل بجائحة كوفيد-19 ودعوتها إلى التزام هدنة. وكان نورلاند واضحا، حين قال إن أفضل نهج لتجسيد الهدنة الإنسانية، هو “قرار المشير حفتر بتعليق حملته على طرابلس”. وركز بشكل خاص على ضرورة إعلان الطرفين تجميدا فوريا لنشر المقاتلين الأجانب، الذين يُشتبه بكونهم ينشرون المزيد من وباء كوفيد-19 في ليبيا. لكن ما الذي يمنع أمريكا وأوروبا من فرض هدنة، وهما تملكان أوراق ضغط حقيقية على الطرفين؟
تشكل هذه الازدواجية صورة أخرى من المُخاتلة التي تطبع تعاطي أمريكا وأوروبا مع الملف الليبي، فنداء نورلاند ليس الأول، ولن يكون الأخير. وفي نهايات تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، رافق السفيرُ وفدا أمريكيا رفيع المستوى إلى مقر قيادة حفتر، في المنطقة الشرقية، قبل أن يتوجه إلى طرابلس للاجتماع مع فائز السراج. غير أن الأمريكيين يُدركون أن الاكتفاء بالتصريحات وإعلانات النوايا لا يُحقق الهدف المُعلن، خاصة أنهم يُقرون بأن أقصر طريق لتكريس الهدنة هو مبادرة حفتر بوقف حملته على طرابلس، طبقا لما جاء في أحد التصريحات الرسمية للسفير نورلاند. لا بل إن الأوروبيين يُضيفون إلى الجوق نغمة، بإصرارهم على تحويل وجهة عملية “صوفيا” الرامية لمراقبة الهجرة غير النظامية، من جنوب المتوسط، إلى وسيلة لتضييق الخناق على الحكومة، التي تحظى بشرعية دولية، بمنعها من الحصول على السلاح.
من صوفيا إلى “إيريني”
وفيما أيد معسكر حفتر، على لسان مدير المركز الإعلامي لغرفة عملياته خالد المحجوب، إطلاق عملية “إيريني” مُعتبرًا إياها “مهمة للأمن القومي الليبي والدولي” عارضتها حكومة “الوفاق” بقوة. وترمي العملية، التي حلت محل عملية “صوفيا” إلى منع إرسال الأسلحة إلى ليبيا، وملاحقة المتاجرين بالبشر، بعدما كانت “صوفيا” تقتصر على المراقبة البحرية لعمليات الهجرة غير النظامية. وعليه، بات من الواضح أنها تستهدف السفن التي قد تحمل أسلحة إلى ميناءي طرابلس ومصراتة، بينما تستمرُ قوات حفتر، في تلقي أضعاف ما تتلقاه الحكومة المعترف بها دوليا، عبر الحدود البرية مع مصر، وأيضا عبر طائرات الشحن العسكرية. مع ذلك ما زالت كفتا الميزان العسكري متقاربتين، بدليل أن لا أحد استطاع حسم الحرب لصالحه حتى الآن. واعتاد كل فريق من الفريقين على الإعلان عن استيلائه على مواقع استراتيجية، مثل المطار الدولي وعين زارة والقره بوللي، ليُعلن الفريق الآخر، بعد ذلك، أنه استعادها.
خلافات أوروبية
لا يبدو أن الأوروبيين حسموا أمرهم في شأن عملية “إيريني” إذ أكد المتحدث باسم الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن المشاورات ما زالت قائمة بين الدول الأعضاء لتحديد مساهماتها في العملية. كما أشار المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، بيتر ستانو، إلى تشكيل مجموعة عمل تسعى لوضع اللمسات الأخيرة على المهمة، وخاصة مساهمات الدول فيها وآليات تشغيلها. والأرجح أن الموضوع سيثير مزيدا من الخلافات بين الأعضاء، بعد الانقسامات التي كرسها التعاطي الفردي لكل بلد مع مضاعفات الحرب على جائحة كوفيد-19.
في أثناء ذلك، تمضي الحرب سجالا بين الغريمين الليبيين، فيما تُجابه حكومة “الوفاق” حربا من نوع آخر مع فيروس كورونا، أدت إلى شلِ الحياة في مناطق ومدن ليبية عدة. وليبيا هي، مع سوريا، البلدان الوحيدان، اللذان يفوق عدد قتلى الحرب فيهما عدد الوفيات بالفيروس.
أربعة أمريكيين
أكثر من ذلك طلب عضوان من مجلس الشيوخ الأمريكي، وهما السيناتور كريس كونز والسيناتور كريس مورفي، من السراج وحفتر وداعميهما الأجانب، والمجتمع الدولي، تنفيذ وقف فوري لإطلاق النار، في كامل التراب الليبي، مع احترام شامل لحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا. وكان أربعة أعضاء من الكونغرس الأمريكي، من بينهم كونز ومورفي، تقدموا في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بمشروع قانون تحت عنوان “تحقيق الاستقرار في ليبيا”. وكان الهدف من المشروع توضيح منهج الولايات المتحدة في التعاطي مع الأزمة الليبية، وإعطاء دفعة للحل السياسي، لكن مشروع القانون هذا ظل صيحة في وادي، خصوصا بعدما استخدم حفتر سلاح النفط، لتجفيف ينابيع العوائد المالية، بُغية تعجيز حكومة “الوفاق”.
وعلى الرغم من الإجراءات العاجلة، التي اتخذتها “الوفاق” والحكومة الموازية في البيضاء (شرق) لتطويق الوباء، فإن الفتق أوسع من قدرة الراقع على رتقه، إذ أن تردي البنية الأساسية الصحية، يُعيق تقدير العدد الحقيقي للإصابات، واستطرادا يحدُ من فرص مكافحة الجائحة والقضاء عليها. وأصابت منظمة الصحة العالمية، عندما عزت قلة عدد الإصابات المسجلة في ليبيا إلى ضعف أنظمة الترصد، وطبيعة الفيروس، الذي يُسبب أحيانا مرضا خفيفا يتعافى منه المصاب، من دون أن يُدرك أنه أصيب. ويشكو الجهاز الصحي في ليبيا، منذ عهد القذافي، من تضعضع البنية الأساسية، ما جعل المواطنين القادرين يسافرون إلى تونس أو الأردن أو تركيا للعلاج، ولا يثقون بالمستشفيات المحلية المتداعية. وعليه يتوقع الخبراء، بعد اقتناء وسائل متطورة لرصد الإصابات، ارتفاعا في حالات الإصابة المرصودة.
تدحرجٌ نحو الأزمة
وبعدما كان يُعتقد أن ليبيا خالية من الإصابات، بدأت السلطات في غرب البلاد وشرقها، تُعلن يوما بعد آخر عن اكتشاف إصابات جديدة، في وقت تسارعت فيه الجهود لتهيئة المستشفيات وإعداد أماكن الحجر الصحي. وأتت المساعدات الأولى من الصين، ولم تأت من البلدان التي تُعتبر ضالعة في الأزمة الليبية، ومنها روسيا وفرنسا وتركيا والامارات. ويأتي في مقدم المُهددين بالإصابة النازحون من مناطقهم، بسبب المعارك الدائرة في محيط طرابلس ومدن أخرى. ويُقدر عددهم بأكثر من 150 ألف نازح، يعيشون حاليا في مدارس وملاجئ غير مُهيأة للسكن، لأنها تفتقد إلى الأساسيات.
تحتاج السلطات الليبية إلى إمكانات مالية كبيرة لمحاصرة الجائحة، لكن هذه الأخيرة أتت في الوقت الخطأ، إذ لم تنهر إيرادات البلد من تصدير النفط والغاز، مثل انهيارها هذه الأسابيع. وتُفيد إحصاءات المؤسسة الوطنية للنفط أن خسارتها قاربت 4 مليارات دولار، جراء تراجع الإيرادات عقب سيطرة قوات خليفة حفتر، على الحقول والموانئ النفطية، في كانون الثاني/يناير الماضي. وحذر رئيس المؤسسة مصطفى صنع الله، من أن الاقتصاد الليبي يتدحرج نحو أزمة مُحقَقة. وباتت المستشفيات والمعاهد والمرافق العمومية الأخرى تعاني من نقص التزوُد بالطاقة الكهربائية والمحروقات، حسب تصريح أدلى به صنع الله لصحيفة “ليبيان هيرالد”. وأوضح الخبير أوليفيي دي سوسة أن تراجع المنتوج المحلي من النفط والغاز، يُعطل تزويد محطات توليد الكهرباء بالطاقة اللازمة، ما ينعكس سلبا على مرافق حيوية مثل المستشفيات. وأكد دي سوسة أن النقص في الايرادات النفطية يقضي على فرص استخدامها في شراء أدوية وكمامات ومعدات طبية، في إطار خطة وطنية لمكافحة جائحة كورونا. وفي مدينة سبها عاصمة إقليم فزان (جنوب) حيث لا وجود للدولة، قامت البلدية بتوزيع غاز الطهي على المواطنين، من خلال الجمعيات الاستهلاكية، بواقع 3000 أسطوانة أسبوعيا، وبسعر 30 دينارا (20 دولارا) للأسطوانة الواحدة.
مهمة عسيرة
اللافت أن المجالس البلدية، اتخذت مبادرات عدة، وسط شلل مؤسسات الدولة، لتشكيل لجان طوارئ وتخصيص أماكن مُهيأة لاستقبال المحجورين، إضافة لتكوين فرق تتولى القيام بأعمال الرش والتعقيم. والأعسر من تلك المهمة، إقناعُ الناس بالاعتكاف داخل بيوتهم لتفادي العدوى، وإجبار من يتمردون على الانضباط، وذلك بتطبيق حظر التجول، بالإضافة لمراقبة الأغذية والأدوية. وعلى الرغم من انشغال حكومة “الوفاق” بقتال قوات حفتر على تخوم طرابلس، وقد عجزت الأخيرة عن اجتياح المدينة حتى الآن، فإن عليها أن تحتوي، في الوقت نفسه، هجوم كوفيد-19 وتحول دون انتشاره في سائر ليبيا، باعتبار هاتين الحربين تحظيان بالأولوية، بين الحروب الثلاث، في المرحلة الراهنة.