رشيد خشـــانة – أربعة أحداث بارزة تختزل الموقف المغاربي من القضية الفلسطينية، أولها إجبار القيادة الفلسطينية على الخروج من بيروت إلى تونس في العام 1982 وثانيها الغارات الإسرائيلية على ضاحية حمام الشط، جنوب العاصمة تونس في خريف العام 1985 ثم إعلان قيام الدولة الفلسطينية، بعد ثلاث سنوات، من قصر الصنوبر، في ضاحية العاصمة الجزائرية، وأخيرا تحقيق المصالحة الفلسطينية المؤجلة منذ سنوات، في خاتمة «مؤتمر لمّ الشمل من أجل تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية» بالجزائر، في تشرين الأول/اكتوبر الماضي.
وطأت أقدام القيادات الفلسطينية أرض المغرب الكبير في وقت مبكر ومن بوابة الجزائر، بعد نيل استقلالها (1962) إذ أفسحت المجال أمام حركات المقاومة لكي تقيم معسكرات تدريب على أراضيها، وأشرف على إدارة هذه العملية الدقيقة، خليل الوزير (أبو جهاد) القائد العسكري لحركة «فتح» وأحد مؤسسيها البارزين، خصوصا بعد انطلاق الكفاح المسلح، مطلع العام 1965. ومن مفارقات الزمن أن مخالب جهاز «الموساد» الإسرائيلي وصلت إلى أبو جهاد واغتالته في العام 1988 في الفيلا التي كان يُقيم فيها في ضاحية سيدي بوسعيد، غير بعيد عن قصر قرطاج، مقر إقامة الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي. لم يُكشف الشيء الكثير عن تفاصيل تلك العملية، إلا أن المظاهرات عمت وقتها شوارع تونس، واتهمت النظام الحاكم بالمسؤولية السياسية والأخلاقية عن الاغتيال، لاسيما أن أبو جهاد كان يقود الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وهو ما جعل «الموساد» يستهدفه من دون باقي القيادات الفلسطينية المقيمة في تونس آنئذ. ويمكن القول إن حلول تلك القيادات بتونس في العام 1982، بعد صفقة أشرف عليها نائب وزير الخارجية الأمريكي فيليب حبيب، غير ملامح العلاقات التونسية الفلسطينية تغييرا جوهريا.
ففي أعقاب محاصرة الجيش الإسرائيلي لبيروت، تمكن حبيب من إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار بين منظمة التحرير والدولة العبرية، والسماح للقيادات الفلسطينية بمغادرة لبنان إلى تونس وسوريا. وتحامل الرئيس العجوز حبيب بورقيبة على نفسه وسافر إلى مدينة بنزرت ليستقبل في مينائها القيادات والكوادر الفلسطينية الآتية من لبنان، وعلى رأسها ياسر عرفات. لكن الجمهور استقبل القادمين على طريقته فزحف صوب ميناء بنزرت في مظاهرات عارمة تأييدا لاستمرار المقاومة. مزج ذلك الاستقبال التونسيين مع الفلسطينيين، ففتح أهل البلد قلوبهم وبيوتهم للأسر الفلسطينية. وسرعان ما انتقلت دوائر منظمة التحرير ومركز التخطيط الفلسطيني إلى تونس، وصار الفلسطينيون يقطنون أحياء المنزه والمنار والمرسى والزهراء، ما ساعد على بناء نسيج واسع من العلاقات الاجتماعية كُلل بكثير من الزيجات المشتركة. وفي غزة ما زال الغزاويون يُطلقون على الحي الذي تقطنه أسر العائدين من تونس بعد اتفاقات أوسلو «حي التوانسة».
هذا الدور الذي لعبته تونس استدعى اهتمام الأجهزة الإسرائيلية، فخططت لتوجيه ضربة جوية إلى القيادات العسكرية الفلسطينية وياسر عرفات، خلال الاجتماع المقرر للأول من تشرين الأول/اكتوبر 1985. وفيما كانت القاذفات الإسرائيلية تُحلق باتجاه تونس، تقرر إرجاء الاجتماع لأسباب لا علاقة لها بالغارة، لكن تنفيذ العملية استمر، إذ أُطلقت في الساعة العاشرة صباحا، وهو الميقات الذي كان مقررا لعقد الاجتماع، ستة صواريخ على مقر قيادة الأركان الفلسطينية، التي كانت تستأجر منزلاً في منطقة حمام الشط، فأزالته تماماً من الوجود. كما قصفت الطائرات الإسرائيلية مقر ياسر عرفات ومكتبه والمقر الخاص بحراساته، ليسقط في هذه الغارة 68 قتيلا وأكثر من 100 جريح من الفلسطينيين والتونسيين.
عاد المغرب العربي ليضبط ساعته على ساعة فلسطين، عندما أعلن الرئيس الراحل عرفات، في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1988 عن «قيام الدولة الفلسطينية من الجزائر، وعاصمتها القدس الشريف» في حضور الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وكافة فصائل منظمة التحرير. كان ذلك في ختام اجتماعات الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني (برلمان المهجر). وبالرغم من أن الوثيقة عُرفت بـ«وثيقة الاستقلال» إلا أن الاستقلال لم يُبصر النور بعدُ. كما أتى إعلان الدولة في ذروة الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في كانون الثاني/يناير 1987 والتي عُرفت بـ«انتفاضة الحجارة». وكانت إحدى ميزات هذه الانتفاضة الشعبية أنها أجبرت الدول العربية، التي أقامت علاقات دبلوماسية مع دولة الاحتلال، على تجميد العلاقات وسحب رؤساء مكاتب الاتصال من تل أبيب. وكانت تونس والمغرب البلدين المغاربيين المعنيين بتنفيذ قرار القمة العربية هذا.
مصالحة في الجزائر
ومع اندلاع الحرب الأهلية في الجزائر مطلع تسعينات القرن الماضي، غاص البلد في الصراعات الداخلية، التي ألهته عن دعم الفلسطينيين، عدا مؤازرتهم معنويا في المحافل الدولية، إلى أن استقرت الأوضاع أخيرا، وبدأت العودة إلى الاهتمام بالملف الفلسطيني، نزولا عند ضغوط المجتمع المدني والنخب الجزائرية المؤيدة للقضية. وأهم خطوة في إطار هذا الحب العائد، كما يقول الكاتب بهاء رحال، دعوة الرئيس عبد المجيد تبون جميع الفصائل الفلسطينية، أي الفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير، بالإضافة إلى حركتي «حماس» و«الجهاد الاسلامي» إلى اجتماع مصالحة في الجزائر، أواخر تموز/يوليو الماضي، وهي الدعوة التي لاقت استجابة من الجميع. وبالرغم من صعوبة المهمة التي آل الجزائريون على أنفسهم تحقيقها، استطاع تبون الجمع بين محمود عباس واسماعيل هنية، في 13 تشرين الأول/اكتوبر بعدما وقعا على وثيقة منبثقة من «مؤتمر لمّ الشمل من أجل تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية» بحسب التسمية الرسمية للمبادرة. ودعت حركتا «فتح» و«حماس» القادة والزعماء العرب، الذين كانوا مجتمعين في الدورة الحادية والثلاثين للقمة العربية بالجزائر، الى إقرار إعلان الجزائر للم الشمل الفلسطيني، واعتباره جزءا من مقررات القمة العربية، وتشكيل فريق عمل جزائري-عربي لتنفيذ بنوده.
في السياق اتخذ الجزائريون مبادرات أخرى على الصعيد الدولي لدعم الفلسطينيين، من ذلك تأييدهم على لسان وزير الخارجية رمطان العمامرة، للطلب الذي تقدم به الرئيس الفلسطيني للأمين العام للأمم المتحدة لحصول فلسطين على صفة دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة. وفي ظل تصاعد القمع الإسرائيلي للفلسطينيين في الأسابيع الأخيرة، ما زالت الجزائر، بوصفها قوة إقليمية، تقدم الدعم السياسي والدبلوماسي للسلطة الفلسطينية، فيما يستمر بعض العرب بالهرولة لاستكمال خطوات التطبيع العسكري والأمني والسياحي والثقافي مع الدولة العبرية.
أما في موريتانيا فوحّدت المظاهرات الداعمة لفلسطين، جميع الأطياف السياسية والحركات الفكرية في البلد، ففي العام الماضي وخلال العدوان الإسرائيلي على غزة، اندفع الموريتانيون إلى الشارع للتعبير عن استنكارهم للعدوان، وشارك في مسيرات التضامن عددٌ من العلماء ورؤساء الأحزاب السياسية ونوابٌ في البرلمان الموريتاني والمسؤولون السياسيون في البلد. وتزامنت المظاهرات في العاصمة مع مسيرات احتجاجية في مدن ومقاطعات داخلية، بما فيها البعيدة عن العاصمة. وجرت حملة واسعة لجمع التبرعات لفائدة الفلسطينيين.
موريتانيا و«الحلف الإبراهيمي»
ولاحظ المحللون تعديلا في سياسة موريتانيا العربية، إذ اقتربت أخيرا من المواقف المغاربية الأخرى، مُبتعدة عن «الحلف الإبراهيمي» الذي اندرج فيه الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز. وحسب المحللين السياسيين والناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي، أتى موقف موريتانيا تعبيرا عن نهج جديد، يتعارض مع رؤية الدول العربية المُطبعة مع الاحتلال بزعامة الإمارات. وبذلك صارت موريتانيا البلد العربي الوحيد تقريبا، الذي تجسدت فيه وحدة الموقفين الرسمي والشعبي، خلف القضية الفلسطينية.
على العكس من وحدة الموقفين الرسمي والشعبي في موريتانيا، تُباعد القضية الفلسطينية منذ سنوات بين موقف الدولة والموقف الشعبي في المغرب، فالأول يقوم على الانضمام إلى «الحلف الإبراهيمي» مع ما استتبع ذلك من فتح سفارة إسرائيلية في الرباط، بينما تدعو غالبية مكونات المجتمع المدني والأحزاب السياسية إلى القطيعة مع الدولة العبرية، بسبب استمرار احتلال الأراضي الفلسطينية، وقمع شعب أعزل لمجرد كونه يطالب بحقوقه غير القابلة للتصرف. واللافت أن اللجان المغربية لمناهضة التطبيع باتت منتشرة في كافة المدن المغربية، وأنها تجمع بين اليمين واليسار، وبين التنظيمات النقابية والتشكيلات السياسية، وبين القواعد والقيادات، لمجابهة محاولات اختراق الجسم المغربي. واستُخدم اليهود المغاربة غطاء لحملات التطبيع الثقافي والسياسي والعسكري والسياحي، بتوجيه تهمة معاداة السامية إلى النشطاء البارزين في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية. أكثر من ذلك، رد مناهضو التطبيع على حملات التشويه تلك، بدعوة البرلمان المغربي إلى سن قانون لتجريم التطبيع مع دولة الاحتلال، والحؤول دون جعل المغرب بوابة للتطبيع مع باقي البلدان العربية والإسلامية. مع العلم أن ملك المغرب محمد السادس هو رئيس لجنة القدس، التي لم تجتمع منذ عقود، بالرغم من حجم الاعتداءات اليومية لجنود الاحتلال على المسجد الأقصى والمقدسيين العُزل من السلاح.
مرصد للتطبيع
يجوز القول إن المغاربة هم أول من بادر بتأسيس مرصد للتطبيع، في ظل الحرص على إشراك كافة المكونات في أعماله. واستطاع المرصد في وقت وجيز أن يساهم بشكل كبير في الكشف عن مخططات ومبادرات وأعمال تطبيعية مع دولة الاحتلال ومع حركات صهيونية. وهذا ما أذكى حركات الاحتجاج، ليس فقط في جانب النُخب، وإنما أيضا لدى فئات واسعة من المجتمع. ومع إمعان السلطات في تنويع مجالات التطبيع، بما فيها العسكرية والأمنية، اعتبرت «ميدل إيست مونيتور» أن تل أبيب حققت مكاسب كبيرة، واستغلت المبادرة التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الخاصة بـ«اتفاقات إبراهام» لمساعدة إسرائيل على تطبيع العلاقات مع جيرانها العرب. ولا يُخفي الجزائريون غضبهم من التنامي السريع للحضور الإسرائيلي في شمال أفريقيا والمنطقة الجنوبية للبحر المتوسط، معتبرين أنه يشكل تهديدا لأمنهم القومي ومصالحهم الحيوية.
وفي السياق كانت مناسبةُ الاحتفاء باليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني الثلاثاء الماضي، مناسبة للتظاهر أمام مقر مجلس النواب المغربي بالرباط، للمطالبة بسن قانون لتجريم التطبيع. ويكفي استطلاع الشعارات التي رفعها المغاربة في مظاهراتهم واعتصاماتهم ليُدرك المرءُ عمق الالتزام بحقوق الشعب الفلسطيني، ومن تلك الشعارات «فلسطين أمانة والتطبيع خيانة» و«المغرب أرضي حرة والصهيوني يطلع برا» و«المغرب وفلسطين شعب واحد مش شعبين» و«متحدون لإسقاط التطبيع». أما مباريات كأس العالم فكانت استفتاء من الجماهير الغفيرة، المُحبة للسلم والعدل، مفادها أنها ثابتة على التزامها بدعم الكفاح الفلسطيني، في جميع المحافل الرياضية وغير الرياضية. وتميزت المنتخبات المغاربية الثلاثة (تونس والجزائر والمغرب) برفع علم فلسطين والطواف به أمام المدرجات، وكأنما أراد المشجعون التونسيون والجزائريون والمغاربة، الحاضرون في الدوحة، التذكير بمكانة فلسطين في أفئدتهم، فرفعوا علمها، وقد كُتب عليه «فلسطين حرة» ( Free palestine) فهل وصلت الرسالةُ إلى من يهمه الأمر؟